الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ إن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالفعل، والعمل، والسعي والحركة حتى يعتاد المؤمن على ذلك الخلق الرباني، ويمارسه باستمرار في جميع جوانب حياته حتى يكون خلقًا، وعقيدة دائمة لا تنفك عنه، وسمة واضحة عليه، ولا سيما إذا كان هذا العبد المؤمن هو من صفوة خلقه نبي أو رسول، ولقد ذكر القرآن الكريم صفات، وأخلاق الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وضمن هذه الأخلاق خلق التوكل عليه سبحانه وتعالى، فقد حثوا عليه أقوامهم تبعًا لأمر خالقهم جل وعلا، وقال تعالى على لسان هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، والمعنى أنه سبحانه بيده الملك والتصرف قاهر حاكم، عادل قيم على جميع خلقه فسبحانه، فمن كانت هذه صفاته فعليه توكلت[1].
فقد دعا هود عليه الصلاة والسلام قومه أولًا إلى التوحيد، ودعاهم إلى الاستغفار في هذا المقام، ولكن اشتغلوا بغير ذلك من تكذيب، وكيد له فقد بين سبحانه وتعالى أن تصريف الأمور كلها بيده فما من أحد إلا وهوة تحت قدرته ومنقاد له، فهنا ترغيب في التوكل على الله على لسان نبي الله هود عليه السلام، وقد ظهر من خطابه لقومه مدى ثبات إيمانه، وتوحيده فهو لا يقول ذلك: "فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون" إلا إذا كان واثقًا بأن الله يحفظه ويصونه من كيد الأعداء"[2]. "إن الثقة بالله والاعتصام به هو ما واجه به هود عليه السلام قومه فعقب التوكل عليهما تقريرًا لهما، والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية: وسعكم لم تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاته"[3].
هذا المقام نستشعر منه قوة إيمان هود عليه السلام، وعزته واستعلائه مع ثقة الإيمان، واطمئنانه" وحقيقة ربوبية الله، وصورة القهر، والقدرة، وسر الاستعلاء، وسر التحدي، فهو رب الخلائق قوي قاهر"[4]، وفي هذا بيان أنه قادر على كل شيء، ولا يعامل إلا بالإحسان، والعدل فمن اعتمد عليه فقد اعتمد على الصراط المستقيم، ومن سلكه سيكون له السطوة، والغلبة، فكل من اعتمد وتوكل على الله الخالق القاهر سينال ما وعد به من الله تعالى.
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام آمن وصدق ولا عجب من ذلك فهو ابن أبي الأنبيا، إن دعوة جميع الرسل هي الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وكذلك الإيمان بأقدار الله خيره وشره؛ لأن ذلك من أصول الإيمان، فمن آمن بقدر الله لا يأسى صاحبه ولا يصيبه الحزن؛ لأنه يلجأ إلى خالقه لمعرفته بعجزه، وحاجته لخالقه، وتراه صادقًا في توكله على ربه يطلب العون من ربه على ما أعجز من تنفيذه، يردد في يقين قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وهذا ما كان من نبي الله يعقوب عليه السلام، مع علمه أن الحكم، والاعتماد كله لله، وعلى الله، وهو على علم أن إرادة الله نافذة، فقد أوصى آبناءه بقوله: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
"صرح يقوب عليه السلام بأنه لا حكم إلا لله سبحانه لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك فعليه التوكل في كل إيراد وإصدار لا على غيره فعليه الاعتماد والوثوق لا على غيره"[5]. "إن هذا التدبير إنما هو تشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى، وأن ذلك ليس بدافع للقدر بل هو إستعانتة بالله تعالى وهرب منه إليه... (عليه توكلت) أي عليه دون غيره، ودون حولي وقوتي اعتمدت في كل ما أتي وأذر وفي هذا إيماء إلى أن الأخذ بالأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافي التوكل"[6].
لقد تضمنت الآية: معاني جمة، فجميع الممكنات معتمدة على قضا الله، وقدره ومشيئته، وحكمه إما بواسطة أو بغير واسطة، فثبت من الآية: أن الإصابة بالعين كلام حق لا يمكن رده[7]. وعلى ذلك نقول إن بالتوكل، يحصل المطلوب، ويندفع المكروه كما حصل لنبي الله يعقوب عليه السلام الذي خفى عليه، وهو أهل علم، من الحكمة فقد أبنائه فجمع الفرقة بعد سنين، وما أتمه الله ليوسف من تمكين، فحصل المطلوب، واندفع المكروه. وقال تعالى على لسان شعيب عليه الصلاة والسلام: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
إن قصة شعيب عليه السلام تضمنت الدعوة إلى الله، ومناقشة قومه، ورده عليهم، وإنذاره بالعذاب، ووقوعه، ونجاة المؤمنين، فشعيب عليه السلام طلب من الله تعالى التوفيق لإصابة الحق، والاستعانة، والإقبال عليه سبحانه، فها هو يقول لقومه: أرأيتم يا قومي {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على بصيرة فيما أدعو إليه "ورزقني منه رزقًا حسنًا" قيل أراد النبوة، وقيل أراد الرزق الحلال، ويحتمل الأمرين، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فافعله خفية عنكم، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي {وَمَا تَوْفِيقِي} في إصابة الحق فيما أريده {إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع[8].
فهذا بيان أن إصابة الحق والإصلاح هو بتوفيق الله، فهو المعين على ذلك فعليه وبه نثق، ونفوض، ونعتمد عليه في أمورنا كلها صغيرها، وكبيرها. إن شعيبًا عليه السلام "بين بهذا أن توكله، واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته، واعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام "توكلت" إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته، فإن بذاته، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى"[9].
فقد تضمنت الآية: معاني عظيمة، وهي أن كل ما آتاه الله تعالى لنبيه شعيب عليه الصلاة ولسلام من العلم والهداية، والدين والنبوة، والمال من الله القادر المعطي لا من غيره فلا يسع شعيبًا عليه السلام وغيره من البشر إلا أن يطيع الله عز وجل في أمره لتبليغ الرسالة لقومه، وقد أقر قومه له بالحلم والرشد، وقد كان مشهورًا به في قومه فكان من اللازم لهم أن يتبعوه فهو لن يترك الرسالة، والدعوة العظيمة، وهذا ما أفاده قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، لأنه سيواظب، ويداوم على دعوته غير تارك لها في شيء من الأحوال، وبين أن عمله كله هو بتوفيق الله عز وجل، وفي الآية: نوع من تزكية النفس، وهذا في قوله {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} أي ما يحصل من التوفيق لفعل الخير بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي.
كذلك التوكل والإنابة من أنواع العبادة التي بها تستقيم أحوال العباد. لقد كان شعيب عليه السلام يدعو قومه إلى المعاملة العادلة، والأمانة، وشرف البيع والشراء، والأخلاق العظيمة الاجتماعية، وحين اختاره الله تعالى لتبليغ رسالته زاده ذلك إلى أن يسند تلك المعاملات والأخلاق إلى أصل ثابت يحكم بها تلك المعاملات والأخلاق، فصار عليه الصلاة والسلام يتلطف مع قومه ويشعرهم أنه على حق ولا ينهاهم عن شيء، ثم يفعله إنما هي دعوة للإصلاح.
"فالإصلاح العام للحياة، والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه، وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص القذرة، ويعوض عنها كسبًا طيبًا ورزقًا حلالا، ومجتمعًا متضامنًا، متعاونًا لاحقد فيه، ولا غدر، ولا خصام، وما توفيقي إلا بالله فهو القادر على نجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} عليه وحده لا أعتمد على غيره {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} إليه وحده أرجع فيما يجزيني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي، وعملي، ومسعاي"[10].
ومضى عليه السلام في دعوته ومارس جميع أساليبها، وأخيرًا تنصل من الإعتزاز برهطه، وقومه لسوء خلقهم، وعدم أدبهم مع الله تعالى فأنذرهم بالعذاب الذي ينتظر أمثالهم وطويت صفحتهم بصاعقة من الله تعالى، نعم! لقد قام عليه الصلاة والسلام بكل ما في طاقته من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال أخيرًا: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
"فإلى الله وحده وكلنا أمورنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، فهو الذي يكفينا تهديدكم، وما ليس في استطاعتنا من جهادكم: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية، ومراعاة السنن الكونية والاجتماعية، فمن يترك العمل بالأسباب فهو الجاهل المغرور لا المتوكل المأجور"[11].
الهوامش:
[1] انظر لابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (2/696)، ولابن جرير، جامع البيان عن تفسير آيات القرآن، (4/286)
[2] انظر الإمام الرازي، مفاتيح الغيب، مج 9، (18/14)
[3] الإمام البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ص 299.
[4] سيد قطب، في ظلال القرآن، (4/1899)
[5] محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، ص3/41.
[6] المراغي، تفسيره، مج5، (13/17)
[7] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (2/749)، وانظر: للإمام الرازي، مفاتيح الغيب، (18/178- 179)، وانظر لعبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (2/438)
[8] انظر: ابن جرير الطبري، جامع البيان، (4/303)، وانظر: لابن كثير، تفسير القرآن العظيم (2/706)
[9] الإمام الرازي، مفاتيح الغيب، مج9، (18/48)
[10] انظر: لسيد قطب، في ظلال القرآن، (4/1921)
[11] المراغي، تفسيره، مج 3، (9/6)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.