التوكل على الله من أخلاق الأنبياء: نوح وإبراهيم عليهما السلام

التوكل على الله من أخلاق الأنبياء: نوح وإبراهيم عليهما السلام






الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ إن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالفعل، والعمل، والسعي والحركة حتى يعتاد المؤمن على ذلك الخلق الرباني، ويمارسه باستمرار في جميع جوانب حياته حتى يكون خلقًا، وعقيدة دائمة لا تنفك عنه، وسمة واضحة عليه، ولا سيما إذا كان هذا العبد المؤمن هو من صفوة خلقه نبي أو رسول، ولقد ذكر القرآن الكريم صفات، وأخلاق الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وضمن هذه الأخلاق خلق التوكل عليه سبحانه وتعالى، فقد حثوا عليه أقوامهم تبعًا لأمر خالقهم جل وعلا، من نوح أول المرسلين إلى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى على لسان نوح عليه الصلاة والسلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
فالمعنى "إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم، "تذكيري بآيات الله" يقول: ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك، "فعلى الله توكلت" يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي، وظهري "فأجمعوا أمركم"، يقول: فأعدوا أمركم، واعزموا على ما تنوون عليه في أمري"[1].
فنوح عليه السلام كان يقابل بغضهم وتجمعهم عليه بالتوكل على الله تعالى، يقول صاحب كتاب مفاتيح الغيب في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}: "يعني إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي، وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله، واعلم أنه عليه السلام كان أبدًا متوكلًا على الله تعالى، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة"[2].
فالحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح هي الحلقة الأخيرة حلقة التحدي الأخيرة، بعد الإنذار الطويل، والتذكير الطويل، والتكذيب الطويل ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة، ولا من ركب فيها، ولا الطوفان ولا التفصيلات في تلك الحلقة؛ لأن الهدف هو إبراز هذا التحدي، والاستعانة بالله وحده فعليه وحده هو حسبه دون النصراء والأولياء، فنجى الله نوحًا ومن معه من جميع الأخطار، والله موف وعه لرسوله وللمؤمنين[3].
فنوح صلوات الله وسلامه عليه قد بلغ الغاية في التوكل، قاطعًا بأنه لا يصل إليه م مكرهم شيء، ولن ينفذ بإذن الله فكان مستسلمًا لكل ما يصل إليه من الله استسلام المؤمن لله لأجل الدعوة مع أنه في قلة، وضعف، وقومه في كثرة ومنعة، وكان بينهم وحيدًا فريدًا، ولكن وحدته ما كان يوهنها، ويكسرها إلا توكله على العزيز المقتدر، ومن هنا أخذ نوح عليه الصلاة والسلام خلق التوكل ومارسه في دعوته لله عز وجل إلى أن وافاه الأجل ولقى ربه.
وهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. "فالله تعالى يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام ومن معه فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجأوا إلى الله، وتضرعوا إليه فقالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك، وإليك المصير أي المعاد في الآخرة"[4].
وهناك معنى آخر تضمنته الآية الكريمة: "يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قول إبراهيم وأنبيائه صلوات الله عليهم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}، يعني: وإليك رجعنا بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، يقول: إليك مصيرنا، ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا في القيامة إلى موقف العرض"[5].
ومن هذا المعنى نفهم، ونستدل على استسلام إبراهيم عليه السلام لخالقه، ومنجيه سبحانه. "ففي إبراهيم عليه السلام لنا الأسوة والقدوة في كل شيء فعله، قوله، خلقه... وقد كان من دعائه {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، وفي هذا القول تعليم للآجيال المؤمنة وتتميم لما وصاهم به، واتساء بإبراهيم عليه السلام"[6].
"فها هو الماضي الطويل الذي لنا فيه أسوة ممتدة على آماد الزمان راجع إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في عقيدته، وتجاربه فهي إذا قافلة ممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله الواقعين تحت راية الله، ومالهم غير التسليم المطلق لله، وهنا يثبت أن إبراهيم فوض الأمر كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال، وهي السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا؛ ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين كحلقة من حلقت التربية الخلقية، والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه بإبراز ما في ثناياه من ملامح، وسمات، وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم"[7].
فما علينا إلا الاقتداء بهذه الأسوة ليتحقق لنا وعد الله، فالتوكل من المقومات الكبرى في العقيدة والأخلاق.

 الهوامش:
[1] ابن جرير الطبري، تفسيره، (4/228).
[2] الإمام محمد الرازي، مج 9، (7/143)
[3] انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، (3/1810- 1812)
[4] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (4/543)
[5] ابن جرير الطبري، تفسيره، (7/275)
[6] الإمام الرازي، تفسيره، مج 15، (29/ 300-302)
[7] انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن (6/3542)

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوكل على الله من أخلاق الأنبياء: نوح وإبراهيم عليهما السلام doc
التوكل على الله من أخلاق الأنبياء: نوح وإبراهيم عليهما السلام pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى