الفرق بين التوكل والتواكل وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع

الفرق بين التوكل والتواكل وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع






إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، فإن التواكل صفة من الصفات الخلقية المذمومة، التي نهى عنها الشرع الحنيف، ويرفضه المؤمن اللبيب، فالأخذ بالأسباب مع التسليم، وتفويض أمر التوفيق لله والثقة واليقين بأنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا هو من التوكل المأمور به شرعًا.
أما القعو عن العمل والأسباب وعدم البذل والجه فليس من التوكل وإنما هو اتكال وتواكل حذرنا منه المصطفى صلى الله عليه وسلم. وقد يظن بعض الجهال الغافلين أن ترك الكسب من التوكل، وهذا فهم سقيم مريض لأن ارتباط المسببات بالأسباب من سنن الله في خلقه. فلا يعقل أن يظهر النبات دون إلقاء الحب في الأرض والعمل على رعايته فينتج لنا الثمر والزهر.
فعن عمر بن الخطاب "أنه لقى ناسًا من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا نح المتوكلون، فقال بل أنتم المتكلون"[1]، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله. وفي ذلك رد بليغ على من يتركون الأسباب تقاعسًا بدعوة التوكل على الله، ولو صدقوا لأحسنوا العمل. كذلك من يمرض ويظن أنه يشفى بدون تداوى فهو تارك لأسباب الشفاء فقد حض الإسلام على التداوي وأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)[2].
"إن إثبات الدواء من الأسباب التي لا تنافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها"[3]. فإهمال الأخذ بالأسباب وترك العمل يسمى تواكلًا وليس ذلك من الإيمان والتوكل على الله هو الأخذ بالأسباب مع العمل؛ لأن العمل بما أمر الله وبذل الأسباب أمر لازم لصحة التوكل على الله، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124]
وقد أمر تعالى عباده بالسعي والعمل وطلب الرزق، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]
التواكل وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع:
إن الإسلام دين ينظم الحياة البشرية في مختلف ميادينها، كما يرسم الطريق للحياة على أساس العقيدة والشريعة والأخلاق. والإسلام يدعو إلى العمل ويبيح ويرغب في المكسب الحلال الذي لا استغلال فيه وبهذا فهو دين عمل وحياة يريد من المسلم أن يعيش حياة هنيئة في ظل الإسلام وبهذا فقد وهب الله الإنسان قوة التفكير والتدبير بواسطة العقل والعلم، وبواسطة العلم تعددت مصادر الرزق وأصبح للإنسان القوة للعمل.
ومن شرف العمل أن يكون وفق ما جاء به الإسلام، فالعمل بجد ونشاط إيمان بما ينوط بالإنسان من مسئولية. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] وقال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51].
فالعمل الصالح هو المعيار الحقيقي للجزاء الحسن، وهو يهيأ المؤمن للدرجات العلى في الجنة. فالعمل فريضة على كل مسلم ومسلمة بقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1، 2]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]
فالمسلم هنا يطمح ويعمل دائمًا ليصل للأمل المنشود في الدنيا والآخرة، فبدون العمل يصبح الإنسان عاجزًا لنيل أدنى مراداته. لذلك أمرنا الإسلام بالعمل حسب شروطه حتى يكون العمل موفقًا متقنًا، ومن ضمن هذه الشروط هي أن يكون المؤمن متوكلًا على الله في عمله أيا كان صغيرًا أو كبيرًا يريد به الدنيا أم الآخرة.
"فالتوكل على الله في العمل موقف ينشأ عما يقوم بنفس المؤمن من أن الله حق وما خلاه باطل، وأن هدى الله هو الهدى ليس بعده إلا الضلال، فإذا استقر هذا العلم بالنفس وصار اعتقادًا جازمًا ويقينًا حاسمًا أورث المؤمن حلة من الثقة المطلقة بصحة الطريق الذي يسلكه مقبلًا على ربه وعاملًا في سبيله، وذلك يدعوه للإقدام بثبات نحو الغاية المنصوبة أمامه على صراطها المستقيم"[4].
فالتوكل شعبة من شعب الإيمان تهيء المؤمن في واقع الدنيا لحياة عامرة بضروب العمل الصالح مفعمة بوجوه الخير. والتواكل على ذلك نقيضه تمامًا فقد أخذ بعض الناس معتقدات، وتصورات واهية لمعنى التوكل، فقد أخذوا من التوكل معنى التعطل، ومن القضاء والقدر معنى الجبر المحتوم، فانتهوا إلى العقود والتواكل عن العمل في الحياة اعتذارًا بأن القدر محتوم، ومكتوب مهما فعلوا، واتكالا على أن الله سيدبر لهم الخير مهما تركوا.
وبهذا كان القعود عن العمل تواكلًا لأنهم تركوا الأسباب وعجزوا عنها فوهنت وضعفت عقيدتهم في العمل بذلك. فالاتكال على الله لن يخرق العوائد، ويجعل السماء من فوق تمطر الذهب والفضة، والأرض من تحت تخرج الخبز والعسل، بلا جهد ولا سعي ولا تفكير ولا عمل. ولقد جاء الأعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ فقال رسول الله: (أعقلها وتوكل)[5].
فالأعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يطلق ناقته ويتوكل أم يعقلها ويتوكل؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بالمنهج السديد الرشيد الذي يجمع بين الأخذ بالأسباب وبين التوكل على الله وذلك سمة من سمات المنهج النبوي في التربية والتوجيه للأمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولته التي سرت مسرى الأمثال السائرة "أعقلها وتوكل". وحديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"[6].
فهذا الحديث هو في الواقع حجة فإنه سبحانه لم يضمن لها الرواح ملاي البطون، إلا بعد غدوها وسعيها لا مع بقائها في أوكارها. ولكن حين يصاب المؤمن بعلة في الاعتقاد والخلق يكون عرضه لأن تعتريه النوائب. فالتواكل لا يقره الإسلام لأنه يهدم أحكام الإسلام وله من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع الكثير الكثير فمنها:
  • البطالة، فيصير الفرد والمجتمع إلى طريق الكسل والعجز والعيش بلا هدف.
  • تصاب عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، بالخلل، فيقعد الفرد مكتوف اليد، وهذا ما لا يقبله الإسلام، لأنه قد حث على بذل الأسباب، ثم بعد ذلك يرضى بما قضى الله له، وما قدر عليه إيمانًا بأن الله تعالى لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا يقضي أمرًا يريد به عسرًا لعباده.
  • لا يكون الفرد والمجتمع قانعًا بما وهب الله، فما جاء هو في حدود ما قدر له من نشاط وطموح وعمل، فيعيش الفرد والمجتمع متمنيًا متطلعًا إلى ما وهب لغيره.
  • يصبح الفرد والمجتمع نتيجة للقعود عن العمل والاتكال رمزًا للعجز والترزق بأفضال الناس وصدقاتهم.
  • يصبح الفرد والمجتمع مخالفًا لسنن الله الكونية، ومخالفً لتعاليم دين الإسلام الذي يرغب في العمل والكسب.
  • يصبح الفرد والمجتمع في ذلة ومهانة ومسكنة وهذا ما تأباه النفوس العزيزة.
  • يفتقد الفرد والمجتمع معنى العبادة لله، لأن الشمول والتكامل هو في أن يسلم المؤمن سعيه وحياته كلها لرب العالمين فيلتزم صراطه المستقيم الذي دل عليه، ولا يحيد عنه بشيء من عمله مجردًا وجوه سعيه جميعًا نحو القبلة الواحدة التي تنتهي إلى الله.
"إن العلم للدنيا والآخرة كفتي ميزان لا ترجح إحداهما إلا بمقدار ما تحمل الأخرى". فالمطلوب من المؤمن أن يعمل ويجهد ويكافح، ويبني ويعمر ويشيد ويتلمس أسباب الرزق على أن تكون لآخرة نيته وغايته، وأمله. فالمؤمن يتخذ الدنيا مزرعة للآخرة التي تحتاج إلى عمل وسعي، ولكن الثمرة إنما تقطف كاملة في الآخرة، وإن أدرك بعضها في الدنيا.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، ذلكم هو المؤمن يسخر الدنيا لنفسه، ولا يسخر نفسه للدنيا، والمؤمن لا يتخذ الدنيا ربا فتتخذه الدنيا عبدًا"
  • قلة الانتاج بقلة الأيدي العاملة، فيقل الدخل ويترتب على ذلك قلة في الادخار والاستثمار، ثم أخيرًا يحصل التضخم الاقتصادي.
  • انخفاض مستوى المعيشة، وإهمال الموارد الطبيعية لقلة العاملين.
  • استيراد عمالة وبذلك يصبح المجتمع في نمو سالب لا هدف له.
 
 الهوامش:
[1] خرجه ابن أبي الدنيا، التوكل على الله، تحقيق: مجدي إبراهيم، (القاهرة: مكتبة القرآن، بدون طبعة) ص26.
[2] البخاري، الفتح، كتاب الطب، ص 166، (5678)
[3] ابن حجر، فتح الباري، (10/167)
[4] د. حسن الترابي، الإيما وأثره في حياة الإنسان، (بيروت: دار القلم، طبعة الأولى: 1394هـ)، ص 40.
[5] الترمذي (2517)، وهذا لفظه وقال: هذا حديث غيرب من حديث أنس، والحاكم، 3/623، وقال الذهبي في التلخيص: إسناده جيد، البيهقي في الشعب، 3/1414 من حديث عمرو بن أمية الضمري، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء بعد أن عزاه للترمذي: رواه ابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث عمرو العمري وقال: إسناده جيد، وذكره الألباني في صحيح الجامع (4809) وقال: حسن.
[6] الترمذي (2324) وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه (4164) وهذا لفظه، وأحمد 1/30 وقال أحمد شاكر، 1/343: إسناده صحيح، والبيهقي في شعب الإيمان، 3/378.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الفرق بين التوكل والتواكل وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع doc
الفرق بين التوكل والتواكل وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى