التوكل على الله وعلاقته بالقدرة والمشيئة والأسباب

التوكل على الله وعلاقته بالقدرة والمشيئة والأسباب




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد؛ شاء الله تعالى أن يخلق الخلائق، وقضى سبحانه أن تكون بأقدار معلومة فهو العليم بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، والمؤمن يعرف لربه الكمال فتراه مؤمنًا بأن كل ما يحدث له قدر بحكمة، والله سبحانه يعلم ولا نعلم ويقدر ولا نقدر ولابد أن نؤمن بأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا؛ لذلك فإن جميع المحصلات بمشيئته سبحانه وقدرته.
قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، لأنه سبحانه هو الذين يعين ويمنع، ويخذل، ويغلب[1]، فالنصر والخذلان بقدر الله، ومشيئته، وفي كل له حكمة يرتضيها، فالله وحده هو صاحب الخلق والأمر، والملك والتدبير، فهو رب العالمين خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبر كل شيء، فهو رب جميع العوالم من مختلف الأجناس والألوان، فهو واحد لا شريك له لا يظهر في الوجود شيء إلا بإرادته، وقدرته وخلقه، وعلمه، هو الأول، والآخر فعال لما يريد؛ هو الذي يرزق جميع خلقه فتقدير أرزاق خلقه، وآجالهم بيده وحده.
قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] فكل ما هو كائن، وما سيكون مسطر في ذلك الكتاب المبين، وبهذا فالمؤمن يندفع للعمل في سبيل مرضاة ربه، مجتهدًا في ذلك، وهذا الإيمان بقدر الله ومشيئته دافعة إلى العمل المثمر في نشر الدين، والعمل بأحكامه وتشريعاته، والأخذ بسلوكه وأخلاقه.
فالآية دلالة إلى الإشارة بإحاطة علمه سبحانه بكل ما هو موجود صغير أو كبير، ولا يتأمل ذلك إلا عالم مؤمن واسع العلم، ومن كان ممتلئًا قلبه بعظمة الله تعالى، ويدرك أن جميع أعماله محصية عليه، سواء كانت صغيرة حقيرة أو كبيرة جليلة[2]، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، فالله تعالى جعل له سننا لا تتبدل والإنسان علمه سبحانه بعض السنن، وأدركه بعضها وجعله يتعامل معها في حدود طاقاته وما لم يكشفه له يعلم الإنسان أنها في طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر الله وما ذاك إلا اختيار من الله تعالى للمتوكلين ليعلموا أن من الإيمان ومن مقوماته الأساسية وقواعده الرئيسية "علم الغيب" الذي اختص به الله تعالى.
والمعنى: أن الله عنده "علم ما غاب عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه، ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه، ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم، لا يخفى عليه شيء؛ لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم، فأخبر تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد"[3]، فينبغي للمؤمن أن يعرف أن القوة الفاعلة للأمور هي قوة الله، بعد اتخاذ جميع السبل والقيام ببذل الجهد، والتكاليف، ونفض الأيدي من العواقب، وتعليقها بقدر الله، ونقبل ونرضى، ونسلم بما يأتي به قدر ومشيئة الله تعالى.
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، فما من شيء إلا ومثبت في علم الله تعالى فكل من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، فيجب الرضى والتسليم لله تعالى فيه فإه على وفق رضى الله تعالى، وبناء على مشيئته، وحكمته وواقع على أساس تدبيره لملكه وخلقه[4].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فالله تعالى خلق العبد، وفعله قد قدره الله تعالى وكتبه عليه، وسبق به علمه قبل التقدير، والقضاء والعبد فاعل لفعله أو تارك له يحاسب به، ويجازي عليه، فالله تعالى لما قدر ما للعبد، وما عليه من خير أو شر قد قدره مربوطًا بأسبابه، فللخير أسبابه، وللشر أسبابه، كما قدر أن العبد يأتي تلك الأسباب، ويعمل بها بمحض إرادته التي قدرها له، وحرية الإختيار الذي قضى له به، فلا يصل العبد إلى ما كتب له من خير أو شر إلا بواسطة تلك الأسباب التي يفعلها غير مجبور أو مكروه عليها وعلى فعلها، وفي الحديث "عن عمر ابن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار"[5]، فالحديث حجة ودلالة على أن الله تعالى إذا كتب على العبد أزلي السعادة أو الشقاء كتب له كذلك أنه يعمل بالأسباب التي تسعد أو تشقى لتتم السعادة أو الشقاء على أساس نظام الأسباب، فالمرء واصل بسعيه إلى السعادة أو الشقاء إلى الخير أو الشر.
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، الآية مقتضية معاني عظيمة منها "يقول تعالى مؤدبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم "قل" يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك، "لن يصيبنا" أيها المرتابون في دينهم "إلا ما كتب الله لنا" في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا "هو مولانا" يقول: هو ناصرنا على أعدائه "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجوا النصر من عن غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره؛ يكفهم أمورهم وينصرهم على من بغاهم وكادهم"[6].
فكل شيء بقضاء الله وقدره، ولله تعالى يثبت لنا المصلحة الدنيوية والأخروية، فلا وجه للفزع، ورضانا بقضائه وقدره في المصائب لن يسؤنا بالحقيقة كيف؟ ولم يكتبها علينا ليضرنا بها، إذ هو "مولانا أي يتولى أمورنا؛ فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر عليه والرض بها، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " فلا ناصر ولا متولى للأمر غيره سبحانه العلي الكبير[7].
إن تفويض الأمور لله تعالى في مستقبل ما، والتصميم على فعله لا الجزم بشيء هي من اللوازم التي على المؤمن أن يتمسك بها عند توكله؛ لأن الأمور جميعها موكولة لله سبحانه، ولمشيئته، وقدرته "والاعتقاد بقدر الله، والتوكل الكامل على الله، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق فذلك أمر الله الصريح في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله، ومن لا يأخذ بالأسباب، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحدًا، ولا تراعي خاطر إنسان"[8]، فاليقين والرضا بما قسم وقدر لابد من إدراكه، وما لم يقسم ولم يقدر لن نصل إليه، إذا فالتوكل على الله لا ينافي السعي بالأسباب التي شاءت إرادة المولى سبحانه تبارك وتعالى أن يحقق بها المسببات، وسبحانه أمر بالأخذ بالأسباب، كما أمر بالتوكل، فالأخذ بالأسباب بالجوارح طاعة للمولى سبحانه، والتوكل بالقلب على الله تعالى إيمان به، فكل ما نقدر عليه من القوة العقلية، والبدنية وأنواع القوى كلها هي أسباب لنيل المقصود والمأمول بعد التوكل عليه سبحانه.
إن الأخذ بالأسباب والوسائل، والقوى التي رتب الله عليها المسببات والنتائج من المقررات الشرعية، وتحت مشيئته وقدره سبحانه، ولعل هذا ما يفهم من قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، والآية فيها معنى "أن الجزاء ليس تابعًا لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمر مقدر من الله تعالى تقديرًا بحسب الأعمال"[9]، فالعمل بما أمر الله لازم لصحة التوكل عليه وترقب الخير منه، والإيمان لا يكون بمجرد تخيل الأماني، وتمني الحصول عليه بغير الأسباب الموصلة إليها، ولكن الإيمان الحقيقي هو ما استقر في نفس المؤمن أنه حق فاطمأن إليه، وحرص عليه، ثم كان عمله موافقًا لهن مصدقًا لوجوده أو دعوة اعتقاده.
والتوكل على ذلك لا يكون إلا بالثقة، والاعتماد على الله، ثم العمل بما أمر به، والأخذ بالوسائل ثم ترك ما لله لله من أقدار وقضاء فلا يعزب عن الله ولا يغيب عن علمه شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد له الملك والحمد فليس في أفعاله سبحانه ولا تقديراته ومشيئته ظلم أو شر قط، قضى بذلك العقل والنقل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، ويقرر هذه الحقيقة رسول الأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: "الخير كله في يديك والشر ليس إليك"[10]، فالله تعالى أثبت لنفسه المشيئة، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]
والكل محكوم بالمشيئة الإلهية، فسبحان من له الإرادة والمشيئة.
 
الهوامش:
[1] انظر: لأبي محمد الحسين البغوي، معالم التنزيل في التفسير والتأويل، 5مج (بيروت: دار الفكر طبعة 1405هـ) (1/573)
[2] انظر: للبيضاوي، أنور التنزيل وأسرار التأويل، ص 282
[3] انظر: لابن جرير، جامع البيان، (3/271)
[4] انظر: للبيضاوي، أنور التنزيل وأسرار التأويل، ص 718.
[5] الحديث طويل رواه أبو داود في سننه (4703) واللفظ له، سنن الترمذي (5/3075) وقال الترمذي: حديث حسن ؛ رواه البغوي في شرح السنة (1/139) وقال محققه، حديث صحيح.
[6] انظر للطبري، جامع البيان (4/119)
[7] انظر للقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مج4 _(8/158)، ولمحمد جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، مج5، 8/233.
[8] انظر: لسيد قطب، في ظلال القرآن، (3/1664- 1665)
[9] انظر لابن عاشور، التحرير والتنوير، مج (3-4-5)، (5/208)
[10] رواه مسلم (2/185)

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوكل على الله وعلاقته بالقدرة والمشيئة والأسباب doc
التوكل على الله وعلاقته بالقدرة والمشيئة والأسباب pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى