الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ إن أصل التوكل هو: حسن الظن بالله، والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، وحقيقة التوكل الشرعي: هو أن يعتمد العبد على الله سبحانه اعتمادًا صادقًا في مصالح دينه ودنياه مع فعل الأسباب المأذون فيها، فالتوكل إذا: اعتقاد، واعتماد، وعمل، أما الأعتقاد: فهو أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والله سبحانه هو المعطي المانع، النافع الضار، المعز المذل.
أما الاعتماد: فهو أن يعتمد قلبه على ربه سبحانه، ويثق به غاية الثقة. أما العمل: فهو أن يعمل الأسباب المأذون بها شرعًا[1]. إذًا، (إن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدّر الله المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10][2].
فالاعتقاد بأن الأخذ بالأسباب مناف للتوكل اعتقاد خاطيء، وذلك أن الذي أمر بالتوكل هو الذي أمر بالأخذ بالأسباب، وهو خالق الأسباب ومسببها، وقد جاء الأمر بهما جميعًا في مواضع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فرض الله على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8، 9]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]، والتقوى تجم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه...
والمقصود أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر وترك ما حذر، فمن ظن أن يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر كان ضالًا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضي الله عليه دون التوكل كان ضالًا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض...
وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع كقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقال شعيب: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88]، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله فضلًا أن يكون من خواص أوليائه المتقين إلا بفعل ما أمر الله وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل، وأما من ظن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله...
فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض أن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح، ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان[3])[4].
كذلك إن التوكل عمل قلبي، والأخذ بالأسباب من أعمال الجوارح، فلا تعارض بينهما، بل كل منهما في موضعه، فالتوكل على الله لابد أن يجمع فيه بين خلع الأسباب علن القلوب، وعدم الاعتماد عليها، وبين إثباتها بالجوارح وأخذها بها، وقد اختصر لنا ذلك ابن حجر فقال: (التوكل؛ و قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب)[5]، ولهذا قال بعض العلماء: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع).
وبيان ذلك: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والإسناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلًا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر. ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، وهو أيضًا طعن في الشرع، لأن القرآن والحس والعقل يشهد لبعض الأمور أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخرة، وبين الخبر والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر.
الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فإن ما أمر الله من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب فيما نيط بها من السعادة، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوة[6].
فالأخذ بالأسباب من لوازم التوكل على الله، ومن ترك الأسباب فهو متواكل مضيع لنفسه وليس متوكلًا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد (في الحج)، وقد رد الأكابر هذا القول، وبالغوا في الرد على من قال بذلك، وذكروا من الحجج عليهم ما بين غلطهم، وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله مما يتركون من طاعته، وقد حكى لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال بحقيقة التوكل، كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب)[7].
وليس من فعل شيئًا أمر به، وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب، إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما؛ مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا ألوم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب[8].
مع كل هذا، ذكر لنا شيخ الإسلام بعض الضوابط التي يجب معرفتها ومراعاتها في الأخذ بالأسباب، يقول رحمه الله: (ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه، فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب، كما جعل المطر سببا لإنبات النبات، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } [البقرة: 164]، وكما جعل الشمس والقمر سببًا لما يخلقه بهما، وكما جعل الشفاعة والدعاء سببًا لما يقضيه بذلك، مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت، فإن ذلك من الأسباب التي رحمه الله بها، ويثيب عليها المصلين عليه، لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدهما: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب، بل لا بد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع، لم يحصل المقصود، وهو – سبحانه – ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله.
الثاني: أنه لا يجوز ان يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئًا سببًا بلا علم أو يخالف الشرع، كان مبطلًا، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببًا إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره – وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه -، وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة – وإن ظن ذلك -، فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسا، فلا يحل له ذلك، إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة"[9].
وذكر الضابط الرابع في كتابه الاستقامة، فقال:" إن الأسباب: إما أن تكون مقدورة أو غير مقدورة، فغير المقدور ليس فيه إلا الدعاء والتوكل، والمقدور إما أن يكون فساده راجحًا أو لا يكون، فإن كان فساده راجحًا نهى عنه، وإن لم يكن فساده راجحًا فينهي عنه كما ينهي عن إضاعة المال والعبث، وأما السبب المقدور النافع منفعة راجحة فهو الذي ينفع ويؤمر به ويندب إليه"[10].
إذا، التوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع، فالموحد المتوكل الآخذ بالأسباب، لا يلتفت إلى الأسباب؛ بمعنى أنه لا يطمئن إليها ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها، فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم، بل كل سبب فهو يفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه، وله موانع وعوائق تمنع موجبه، وما تم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيءة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن[11].
الهوامش:
[1] انظر: طريق الهجرتين (ص 389)، والقول المفيد (2/666)، وأعمال القلوب، حقيقتها وأحكامها (1/396).
[2] جامع العلوم والحكم (2/498).
[3] أخرجه مسلم في صحيحه (ص 1069)، في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله.
[4] مجموع الفتاوى (8/526- 529)، وانظر كذلك (18/ 185-189)
[5] فتح الباري (3/384)
[6] انظر: مجموع الفتاوى (8/169- 177)
[7] مجموع الفتاوى (8/530)
[8] مجموع الفتاوى (18/18)
[9] مجموع الفتاوى (1/ 137-138)
[10] الاستقامة (1/154)
[11] منهاج السنة (5/366- 367)، بتصرف يسير.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.