الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، الاستسلام تذلل وخضوع، وإظهار القبول لطاعة الله، والإذعان لأمره ولما آتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمى المسلم مسلمًا إلا لخضوع جوارحه لطاعة ربه الخالق عز وجل، فمشهد الخضوع والافتقار، والتواضع لرب العزة والجلال ضرورة، فسبحانه بيده الصلاح، والفلاح والهداية، والسعادة.
واستسلام العبد لا يكون إلا باستسلام القلب، واللسان، والجوارح "فكل من سلم لله، واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له... فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها"[1]، فأصل الاستسلام إستقامة القلب على التوحيد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، فعلى العبد أن يقوم بواجبه تجاه ربه الخالق فيتقيه حق تقواه حتى يتمكن من الثبات على الإسلام، وهو مخلص مفوض أموره إلى الله سبحانه[2]، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
"تسليمًا تامًا بظاهرهم وباطنهم يقال سلم الأمر لله واسم له بمعنى وحقيقته سلم نفسه له وأسلمها إذا جعلها سالمة له خالصة أي ينقادون لحكمك إنقياد الأشبهة فيه بظاهرهم وباطنهم"[3]، وفي التسليم، والثقة، والتفويض: ما في التوكل من العلل، وهو من أعلى درجات سبل العامة، ولا يكون الاستسلام إلا بانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، والانقياد بالظاهر والباطن، والعمل على قدر القوة، والاشتغال بما ثبت لله تعالى من حكم، فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج، في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان، فمن استكمل هذه المراتب وكملها فقد استكمل مراتب الدين كلها[4].
"فلا يكفي الإيمان، مالم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب، والجنان في إطمئنان"[5]، ففي قصة أم موسى عبر مستفادة، قال تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، لقد عرفت الله سبحانه فانقادت، واستسلمت وما ذاك إلا عين ثقتها بالله تعالى، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها في اليم تتلاعب به أمواجه.
"فالثقة بالله هو خلاصة التوكل ولبه... والتفويض: ألطف إشارة، وأوسع معنى من التوكل، فإن التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه"[6]، قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
أتوكل على الحي لا إله إلا هو وأستعين به وأسلم أمري إليه فلا مرد من الله إلا إليه سبحانه، فسبحان المتصرف بخلقه ليبلو صبرهم واستسلامهم، ويظهر معادنهم وجواهرهم في الابتلاء، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، فإخلاص العباد والدين لله والخضوع والتواضع له هي من أصل الإسلام؛ لأن إسلام النفس لطاعة الله لا يكون إلا بالإنقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة والإخلاص والقربة[7].
وظاهر الآية فيه معنى إسلام الوجه لله تعالى بتوحيده بالعبادة والإخلاص له في العمل، بأن لا يجعل بينه وبين الله سبحانه وسطاء يقربونه إليه زلفى، فإنه أقرب من حبل الوريد، ومن هنا تتقرر قاعدة من أخلص ذاته كلها لله، ووجه مشاعره كلها إليه، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر، فهنا تبرز سمة الإسلام الأولى: إسلام الوجه.
والوجه رمز على الكل، ولفظ أسلم بمعنى الاستسلام والتسليم، الاستسلام المعنوي، والتسليم العملي، ومع هذا فلابد من العقيدة والعمل، بين الإيمان القلبي، والإحسان العملي، وبذلك تستحيل العقيدة منهجًا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، ويكون الاستسلام كذلك بالفعل الحسن الممدوح لا بالفعل القبيح المذموم[8].
فكل من أسلم واستسلم لله كان له من الأجر والرحمة الكثير، وفي هذا المعنى قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
فالآية الكريمة توطين للنفس على احتمال المكاره بعد أن يكون المرء متوكلًا على الله في أعماله، وترك كل شيء بعد العمل لتجري الأمور حسب مقادير، ومشيئة الله تعالى، إن في التوكل على الله يأتي معنى الصبر الذي نلمحه في بحر الدنيا ونرى كيف تتلقى الأمواج، والمؤمن يتعلم كيف يصبر على مدافعه الأمواج، والأيام عند نزولها بالبلاء، فمن يعرف كيفية جريان الأقدار يثبت لها، وليتذوق من هنا طعم الصبر، وتظهر ملكة الثبات، وتحمل المشاق ومصارعة الشدائد بالتوكل على الله، فيكسب المرء من ذلك قوة في النفس، ورباطة الجأش، وما هذا إلا دليل على تمكن التوكل من القلب وحب العقيدة، والصبر عليها، وعلى تكاليفها حتى الممات "فكلنا لله... كل ما فينا... كل كياننا وذاتيتنا... لله... وإليه المرجع والمآب في كل أمر، وفي كل مصير، والتسليم المطلق، تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهًا لوجه، بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح"[9].
فبالصبر والاستسلام والتواضع ينبثق وينبعث التوكل على الله في المرء المؤمن. لن يكون المؤمن مؤمنًا إلا بعد انقياده وإذعانه باطنًا وظاهرًا لحكم وقضاء الله تعالى. فالاستسلام يعد من الإيمان ويتبع الإيمان أمور كثيرة، منها توكل العبد على ربه والمضي فيما قدره له، والمؤمن هو من يرضى ويكون تحت مشيئة الله تعالى، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، فمن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وأقواله، وهذا ما أمرنا به، وكان حتمًا علينا الامتثال به، والاستسلام والتسليم لذلك[10].
فهذا الإخلاص لا يأتي إلا بالاستسلام لله تعالى والإذعان له طوعًا أو كرهًا، وبالاستسلام ينال المرء عاقبة أمره الحسنة بما قام به من الطاعة، والإذعان، والامتثال، قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22]، فمن يخلص وجهه لله بانقياده لأمره وإتباعه لشرعه، وهو محسن في عمله باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} أي تمسك وتعلق {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فقد أخذ موثقًا من الله مثبتًا أنه لا يعذبه... فمن يفوض أمره إلى لله ويتوكل عليه، وهو محسن بعمله فإنه متمسك بالعروة الوثقى[11].
فالمؤمن عليه، وينبغي له الانقياد والاستسلام لأوامر الله وطاعته سبحانه في العسر واليسر؛ لأن جميع الأمور صائرة إلى الله فيجازي عليها فلا سعادة للعبد إلا بخضوعه لربه، وفي هذا عبادة الله تعالى، فكل من سلم نفسه لله خالصًا نجا لأن العمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب، فالإقبال والإخلاص لدين الله تعالى هو الطرف الأوثق فلا يخاف بعد ذلك المؤمن انقطاعًا، لأنه متمسك بالعهد الأوثق.
"فينبغي أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير، وهذا معنى قولهم: التوكل إسقاط التدبير، يعني الاستسلام لتدبير الرب لك، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل فيما يفعله بك، لا فيما أمرك بفعله فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده، وانقياده له، وترك منازعات نفسه، وإرادتها مع سيده، والله سبحانه وتعالى أعلم"[12].
وخلاصة القول فإن المستسلم المفوض أموره كلها إلى الله قد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان الله ومحبته، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء ويعاقب المسيء بأنكل عذاب، فالمراد من الاستسلام والانقياد والخضوع هو التوكل عليه سبحانه والتفويض إليه.
الهوامش:
الهوامش:
[1] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، ص2/32
[2] انظر: للخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل، (1/391)، وللشوكاني، فتح القدير، (1/376).
[3] انظر: لأبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، (1/545)
[4] انظر: لابن القيم، مدارج السالكين، (2/153)، وللسعدي، تيسير الكريم الرحمن، (1/396- 397)
[5] سيد قطب، في ظلال القرآن، (2/697).
[6] انظر: لابن القيم، مدارج السالكين، (2/143- 149)
[7] انظر: للبغوي، معالم التنزيل، (1/140)
[8] انظر: لمحمد رشيد رضا، تفسير المنار، (1/426)، ولسيد قطب، في ظلال القرآن (1/98).
[9] انظر لسيد قطب، في ظلال القرآن، (1/139)
[10] انظر: للسعدي، تيسير الكريم الرحمن، (2/97)
[11] انظرلابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (3/717)، وانظر: لسعيد حوى، الأساس في التفسير، (8/433)
[12] انظر لابن القيم، مدارج السالكين، (2/127)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.