الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 30 - 36].
لما أثنى الله تعالى على دواد، وذكر ما جرى له ومنه، أثنى على ابنه سليمان – عليهما السلام – فقال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} أي: أنعمنا به عليه، وأقررنا به عينه {نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمان عليه السلام فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجاع إلى الله في جميع أحواله، والإنابة والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة الله، وتقديمها على كل شيء.
ولهذا، لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي: التي من وصفها الصفون، وهو رفع إحدى قوائهما عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال معجب، خصوصًا للمحتاج إليها كالملوك، فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب، فأهلته عن صلاة العصر وذكره.
فقال ندمًا على ما مضى منه، وتقربًا إلى الله بما ألهاه عن ذكره، وتقديمًا لحب الله على حب غيره: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} وضمن {أَحْبَبْتُ} معنى (آثرت) أي: آثرت حب الخير، الذي هو المال عمومًا، وفي هذا الموضع المراد الخيل: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}[1]، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، أي: ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أي: شيطانًا قضى الله وقدر أن يجلس على كرسي ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان، {ثُمَّ أَنَابَ} سيلمان عليه السلام إلى الله تعالى وتاب.[2]
ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا لحاجته)، وفي رواية ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون" [أجمعين][3]، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24].
هذا إرشاد من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل، علام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون[4].
فقال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، فاستجاب الله له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكًا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلى، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفات وأوثقه، والله أعلم.
الهوامش:
الهوامش:
[1] تفسير السعدي، (1/172)
[2] تفسير السعدي، (1/713)
[3] صحيح البخاري، كتب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد، (3/1038)، رقم الحديث 2664، وصحيح مسلم، كتاب الأيمان، باب الإستثناء، (5/88)، رقم الحديث (4378)، وتفسير ابن كثير (5/149).
[4] تفسير ابن كثير (5/148)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.