التوبة من الكتاب والسنة (2)

التوبة من الكتاب والسنة (2)




المسألة الثانية ـ ترغيب المؤمنين بالتوبة، وعدم اليأس والقنوط
:

أَقْسَمَ الشيطانُ اللعين على الله أن يغوي الناس أجمعين، وأنه تَفَرَّغَ لهذه المهمة، وبيَّنا طريق الحماية منه بالاستعاذة بالله عزوجل.

ولكن من أساليب الشيطان لإغواء الناس وإضلالهم هي الوساوس التي يوسوس بها في صدور الناس، ومن تلك الوساوس أنه يوحي إلى العبد القنوطَ من رحمة الله، واليأس من مغفرته؛ لكي لا يحقق العبدُ عبادةً تُصْقَلُ بها القلوبُ، وتُغْفَرُ بها الذنوبُ، ألا وهي التوبةُ إلى اللهِ عزوجل والإنابة إليه.

وللشيطان في وقوع الناس في القنوط مسلكان، كما بَيَّنَ ذلك شيخُ الإسلام - رحمه الله -؛ الأول: أن يوسوس إلى الإنسان أن اللهَ لا يغفرُ له، وهذا لكونه يستعظمُ الذنوبَ ويستبعد غفران الله عليها، الثاني: أن يوسوس إليه أن التوبة مُتَعَذِّرَةٌ عليه، لأنه يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقول لنفسه أنه لا يستطيع التوبة، فلا يتوب أصلًا([1]).

وعند تأمل نصوص الكتاب والسنة؛ نجد أن الشارع الحكيم عالج هذا الموضوع تمام العلاج، فنجد في النصوص الترغيب العظيم لمن أسرف على نفسه بأنواع الظلم بأن يتوب إلى الله؛ لأن رحمة الله واسعة، وأن الله كتبَ على نفسه الرحمةَ، وأنه يَبْسُطُ يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويَبْسُطُ يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، وكلُّ هذا ترغيبٌ في أن باب التوبة مفتوح، وأن مغفرته واسعة، وأن الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره لعبده التائب.

وإليكم بعض النصوص من الكتاب والسنة تدل على ذلك:

قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

فهذه الآية هي أرجى الآيات للمذنبين، فإنه أولًا ضافَ العبادَ إلى نفسِه لقصدِ تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عَقَّب ذلك بالنهي عن القنوط، والرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى، ثم أخبر تعالى أنه يغفرُ الذنوبَ جميعًا بصيغة التوكيد، للدلالة على أن الذنوب مهما عظمت فإنها داخلةٌ تحت الغفران.

(فيا لها من بشارةٍ ترتاحُ لها قلوبُ المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنبٌ، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو، وما أحسن ما عَلَّلَ عز وجل به هذا الكلام قائلًا: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما ...)([2]).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فيه نهيٌ عن القنوط من رحمةِ الله تعالى وإن عظمت الذنوبُ وكثرت، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يقنط من رحمةِ الله وإن عَظُمَتْ ذنوبُه، ولا أن يُقَنِّطَ الناسَ من رحمة الله، قال بعضُ السلف: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يُؤيِّس الناسَ من رحمةِ الله، ولا يُجَرِّئُهم على معاصي الله)([3]).

وحين شرح شيخُ الإسلام الحديثَ القدسي: وفيه قول النبي r: ((قال الله : يا عبادي إنكم تُخْطِئُون بالليلِ والنهار، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم ...))([4])، قال - رحمه الله -: (فالمغفرةُ العامة لجميع الذنوب نوعان([5])؛ أحدهما: المغفرةُ لمن تاب، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] إلى قوله: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54].

فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعنى: لا ييأس مُذْنِبٌ من مغفرةِ اللهِ ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره لعبده التائب، وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله تعالى يغفرُ ذلك لمن تاب)([6]).

ومن الآيات التي تُرَغِّبُ في التوبة قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17].

فبيَّن اللهُ أن التوبة ليست محجوزة لفئة معينة من المذنبين، بل إنها مقبولة من كل من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، ومعنى {بِجَهَالَةٍ}: أي بغفلة من القلب عن مضار العمل السيء، أو أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، ولكنهم آثروا العاجل على الآجل، فسُمُّوا جُهَّالًا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة.

وليس الأمر أنهم يجهلون أن العمل المُعَيَّن سوء؛ قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: (والمقصود هنا: أن كل عاصٍ لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلًا لنقص خوفه من الله، إذا لو تَمَّ خوفُه من اللهِ لم يعصِ)([7]).

وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، أي قبل أن يدركهم الموتُ أو قبل حضور مقدماته؛ قال أبو العالية: (سألتُ أصحابَ رسولِ الله r عن هذه الآية؛ فقالوا لي: كُلُّ من عصى اللهَ فهو جاهلٌ، وكلُّ من تابَ قبلَ الموتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ)([8]).

ويدل ذلك الآيةُ التي تليها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وأما من تابَ عند معاينة الموت، فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله، فلما أدركه الغرقُ قال: آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين؛ قال اللهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]، وهذا استفهام إنكار بَيَّنَ به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار: إما بمعنى النفي إذا قابل الإخبار، وإما بمعنى الذم والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا.

ومثلُه قولُه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83-84]، بَيَّنَ أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سُنَّةُ الله التي قد خَلَتْ في عباده، كفرعون وغيره، وفي الحديث: ((إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ))([9]))([10]).

ومن الأحاديث التي جاء الترغيبُ فيها بالتوبة قول النبي : ((إنَّ اللهَ يبسطُ يدَه بالليلِ ليتوب مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، حتى تطلع الشمسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))([11]).

ففي الحديث الإخبار بأن اللهَ يَبْسُطُ يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، أي أن الفرصة متاحة للمذنب دائمًا لكي يتوب، ولا يقتصر على وقت معين طالما كان العبدُ حيًّا، ولم تحضره مقدمات الموت، وطالما أن باب التوبة لم يُقْفَلْ بطلوع الشمس من المغرب.

فمن آوى إلى فراشه في الليل فليحاسب نفسه، وينظر ما عمل في النهار، فيستغفر اللهَ ويتوب إليه مما كان قد أحدث في النهار من المعاصي والتقصير، حتى يبيت وهو طاهر، وحتى يَقْدُم على ربه - لو قدر ذلك أثناء النوم - وهو مغفور الذنوب مجبور الكسر.

وإذا استيقظَ العبدُ في الصباح واستعد لمواجهة نهاره، فَلْيُعْطِ نفسَه فرصة محاسبتها بالليل، وماذا عمل فيه، حتى يتدارك ما كان حصل فيه بالتوبة والاستغفار، ليبدأ نهاره وصفحتُه بيضاء نقية([12]).

فالخلاصة؛ أن على العبد أن لا يُؤَخِّرَ التوبة بسبب الذنوب التي ارتكبها، لأن الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره لعبده التائب، ولأن رحمته واسعة، فلا ينبغي له أن يقنط وييأس، كما ينبغي عليه أيضًا أن يبادر بالتوبة قبل دخول الإنسان في سياق النزع والاحتضار، وقبل طلوع الشمس من مغربها.


الهوامش:

([1]) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (16/19-20).

([2]) تفسير الشوكاني، (4/668).

([3]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (16/19-20).

([4]) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (1039).

([5]) النوع الثاني لمعنى المغفرة العامة عند شيخ الإسلام هو تخفيف العذاب، أو تأخيره إلى أجلٍ مُسمى، فمن الأول: دعاء النبي r لتخفيف العذاب عن عمِّه أبي طالب، ومن الثاني ما يحصل من عدم المؤاخذة والعذاب لبعض الذنوب في الدنيا؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45]، انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (18/192).

([6]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (18/185-186).

([7]) الإيمان الكبير، ابن تيمية، ص(21-22).

([8]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (10/307-308).

([9]) رواه أحمد في مسنده، (10/300)، والترمذي، كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، (803)، وقال الترمذي: (هذا حديثٌ حسنٌ غريب)، ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، (704)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، (2343).

([10]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (18/190-191).

([11]) رواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، (1104).

([12]) أعمال القلوب وأثرها في الإيمان، د.محمد دوكوري، ص(474).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المسألة الثانية ـ ترغيب المؤمنين بالتوبة، وعدم اليأس والقنوط.doc doc
المسألة الثانية ـ ترغيب المؤمنين بالتوبة، وعدم اليأس والقنوط.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى