آثارُ التوبةِ فِي مجالِ تزكيةِ النفسِ

آثارُ التوبةِ فِي مجالِ تزكيةِ النفسِ





التوبةُ دواءٌ جامعٌ لكلِّ أدواءِ النفسِ وَأمراضِ القلبِ لأنَّها عودةٌ بالعبدِ العاصي إلى حلاوةِ الطاعةِ وَالانخلاعُ عنْ تعاطي السمومِ القاتلةِ التي تفتكُ بالقلبِ.

وَلعلَّ أبرزَ آثارِ التوبةِ فِي مجالِ التزكيةِ الآثارُ التاليةُ:

1 - تذللُ العبدِ لربِّه وَتحققُه بصدقِ العبوديةِ له سبحانه:

لا تتحققُ للنفسِ عزتُها وَسكينتُها إلا إذا تذللتْ لخالقِها وَخضعتْ له سبحانه راضيةً راغبةً، وَأقبلتْ عليه خائفةً وجلةً، وَبذلكَ تنالُ الأمنَ، وَيتذوقُ المسلمُ لذةَ المناجاةِ لخالقِه - عز وجل - فتشرق نفسُه وَينشرح صدرهُ وَتصغر الدنيا فِي عينيه.

وَأعظمُ مواطن المناجاةِ تلكَ التي يُقْبِلُ العبدُ فيها على ربِّه تائبًا نادمًا يتوسلُ إليه وَيتضرعُ بينَ يديه وَيدعوه بخشوعٍ وَخضوعٍ أنْ يقبلَ توبتَه وَيغفرَ زَلَّتَه.

يقولُ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ -: (مِنْ مُوجباتِ التوبةِ الصحيحةِ كسرةٌ خاصةٌ تحصلُ للقلبِ لا يشبهها شيءٌ، قدْ أحاطَتْهُ منْ جميعِ جهاتِه، وَألقَتْه بينَ يدي ربٍّ طريحًا ذليلًا خاشعًا، كحالِ عبدٍ جان آبقٍ مِنْ سيدِه، فأُخِذَ فَأُحْضِرَ بينَ يديه، وَلَمْ يجدْ مَنْ ينجيه مِنْ سطوتِه، ولمْ يجدْ منه بُدًّا وَلَا عنه غناءً وَلَا منه مهربًا، وَعَلِمَ أَنَّ حياتَه وَسعادتَه وَفلاحَه وَنجاحَه في رضاه عنه، وَقَدْ عَلِمَ إحاطةَ سيدِه بتفاصيل جناياتِه، هذا مع حُبِّه لسيدِه وَشدة حاجتِه إليه، وُعلمِه بضعفِه وَعجزِه وَقوةِ سيدِه، وذلهِ وَعزِّ سيدِه.

فيجتمعَ منْ هذه الأحوال كسرةُ ذلةٍ وَخضوعِ، ما أنفعُها للعبدِ، َومَا أجدى عائدها عليه، فليسَ شئٌ أحبَّ إلى سيدِه مِنْ هذه الكسرةِ وَالخضوعِ وَالتذللِ وَالإخباتِ وَالانطراحِ بينَ يديه وَالاستسلام له، فللهِ مَا أحلى قوله في هذه الحال: أسألُكَ بعزتِكَ وَذُلي إلَّا رَحِمْتَنِي، أسألُكَ بقوتِكَ وَضعفِي وَبِغِنَاكَ عنِّي وَفَقْرِي إليكَ ...)[1].

2 - تطهيرُ النفسِ وَانشراحُ الصدرِ:

عندما يبادرُ المسلمُ إلى التوبةِ ويتحققُ مِنَ الندمِ على مَا فَرَّطَ، وَيتذللُ لخالقِه داعيًا أَنْ يغفرَ ذنوبَه، فَإِنَّ ذلكَ يعيدُ إليه الثقةَ بنفسِه بعدَ أنْ يَفِرَّ منها وَيكرهَها وَيَحُطَّ مِنْ شأنِها بسببِ الآثامِ التِي ارتكبَها، وَلَاشَكَّ أَنَّ هذا التحررَ مِنَ الشعورِ بالذنبِ دافعٌ قويٌّ إلى تكوينِ شخصيةِ المسلمِ الثابتِ المطمئنِ، التي لا تحس بالتوترِ وَلَا تعتريها الكآبةُ وَالقلقُ.

وَالمؤمنُ الذي يقعُ فِي المعصيةِ، لا يباشرُها إلا وَالحزنُ مخالطٌ لقلبِه، وَلكن سكرةَ الشهوةِ تحجبُه عن الشعورِ بهذا الحزنِ، فإذَا انتبَه وَتيقظَ صَارَ ذلكَ الحزنُ نَارًا تتأججُ فِي قلبِه، لا يُطْفَئُ لهيبُها إلا بالتوبةِ النصوحِ، التي تُعِيدُ إلى القلبِ طمأنينَته، وَتغسلُ مَا عَلِقَ بِهِ مِنْ أدرانِ المعاصي.

وَقَدْ أثنى اللهُ على عبادِه المسارعين إلى الخيراتِ بأوصافٍ عديدةٍ، منها أنهم يبادرون إلى التوبةِ وَالاستغفارِ دونَ إمهالٍ وَلَا تسويفٍ، طلبًا لطهارةِ النفسِ، وحذرًا مِنْ سوادِ القلبِ؛ فَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136].

3 - الرجاءُ وَالمسارعةُ إلى العملِ الصالحِ:

اليأسُ داءٌ قاتلٌ، وَالمريضُ إذا يَئِسَ منَ الشفاءِ تركَ الدواءَ، وزادتْ عللُه وَأمراضُه بما يعتريه من كآبةٍ وَبؤسٍ، حتى يغدو كالميتِ وإنْ كانَ يعيشُ بينَ الأحياءِ.

وَالعبدُ المُذْنِبُ إذا كثرتْ ذنوبُه وَسُدَّ أمامه بابُ التوبةِ، وَتوهَّمَ أَنَّ طريقَ العودةِ إلى رَبِّهِ مقفلٌ في وجهِه؛ فإنَّه سيصابُ باليأسِ، وَينظرُ إلى الحياةِ نظرةً سوداء قاتمةً، وَتخبو آخرُ ومضةٍ مِنْ نورِ الإيمانِ فِي قلبِه، وَيتحولُ عَنْ إنسانيتِه التِي كَرَّمَهُ اللهُ بها إلى حياةٍ أخس مِنَ البهائم، وَيُصبحُ شَرًّا مُسْتَطِيرًا على كُلِّ مَنْ حوله.

لذا حَذَّرَنَا رَبُّنَا – سبحانه - مِنَ اليأسِ وَالقنوطِ مِنْ رحمتِه، وَأَمَرَنَا أَنْ نُسَارِعَ إلى التوبةِ وَالندمِ؛ فقَالَ تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وَقَالَ سبحانه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

وَقَالَ سبحانه: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].

 

الهوامش:

([1]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/186-187).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
آثارُ التوبةِ فِي مجالِ تزكيةِ النفسِ.doc doc
آثارُ التوبةِ فِي مجالِ تزكيةِ النفسِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى