المسألة الرابعة: الإخبار أن التوبة من شيم أولياء الله المقربين
إذا أَمْعَنَّا النظرَ في الكتاب والسنة تبين لنا أن التوبة إلى الله والاستغفار كان من شِيَم الأولياء المقربين من الأنبياء والمرسلين.
وقبل ذلك أريد أن أُنَبِّه إلى أن الأمر بالتوبة إلى الله والاستغفار كان من الأمور المتفق عليها بين الأنبياء والمرسلين:
قال الله تعالى عن نوح أنه قال لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10-11].
وقال عن هود: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
وقال عن صالح: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
وكذلك قال شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]([1]).
والآن أذكر بعضَ الآيات التي وردت أن الأنبياء لم يكونوا يأمرون بالتوبةِ فقط، بل كانوا أول الممتثلين لها، بل غاية المؤمنين من الأنبياء فمن دونهم هي التوبة([2])؛ قال تعالى عن أبينا آدم عليه السلام: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]: يخبرُ اللهُ عن أبي البشر آدم عليه السلام أنه تاب إلى ربِّه من معصية الأكل من الشجرة؛ فتابَ اللهُ عليه لأن الله هو التواب الرحيم.
وقال عن موسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]: يخبر اللهُ عن توبة موسى عليه السلام لما سألَ رَبَّه أن ينظر إليه، فأخبره اللهُ أنه لا يقدر على ذلك لضعفه الجسماني الذي يتسم به البشر في هذه الحياة الدنيا، وقد تجلى الربُّ عز وجل للجبل فصار دكًّا، فخر موسى صعقًا، فلما أفاق من صعقته أعلن توبته إلى اللهِ عن سؤالٍ ما كان ينبغي له أن يسأله.
وقال عن داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]: يخبرُ اللهُ عن توبة داود عليه السلام حين تأكد لديه أن الخصومة التي حُمِلَتْ إليه تحمل في طياتها فتنة له واختبار من الله عز وجل، فما كان منه إلا أن بادر إلى التوبة والاستغفار، وَخَرَّ راكعًا، فأتبع التوبةَ عملًا صالحًا يؤكد به مضمون التوبة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّه لَيُغَانُ على قَلْبِي، وإنِّي أستغفرُ اللهَ في اليوم مائةَ مرة))([3])، فقد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه يُغَانُ على قلبِه، وهو ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشرُ، فيغفل عن ذكرِ اللهِ في بعض الأحيان، لكنه يفزع إلى الاستغفار ويُكْثِرُ منه، قال شيخ الإسلام: (و"الغين": حجابٌ رقيقٌ أرق من الغَيم، فأخبر أنه يستغفر اللهَ استغفارًا يزيلُ الغينَ عن القلبِ، فلا يصير نكتة سوداء، كما أن النكتة السوداء إذا أزيلت لا تصير رينًا)([4]).
والخلاصة من هذه النصوص أن المنزلة عند الله والزلفى لديه لا تغني العبدَ عن التوبةِ إلى اللهِ والإكثار منها، فغايةُ المؤمنين من الأنبياء فمن دونهم هي التوبة، فلا يغتر بقول المعتزلة ومن وافقهم القائلين بعدم توبة الأنبياء، ليتمكنوا من القول أن الأنبياء معصومون من الذنوب، فمن نظر في الكتاب والسنة يجد أن النصوص تذكر توبةَ الأنبياء من الذنوب كما أسلفنا.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وقد اتفقَ سلفُ الأمةِ وأئمتُها ومن اتبعهم على ما أخبرَ اللهُ به من كتابِه، وما ثَبُتَ عن رسولِه، من توبةِ الأنبياء - عليهم السلام - من الذنوب التي تابوا منها، وهذه التوبةُ رَفَعَ اللهُ بها درجاتهم، فإن اللهَ يحب التوابين ويحب المتطهرين، وعصمتُهم هي من أن يقروا على الذنوبِ والخطأ، فإن من سوى الأنبياء يجوزُ عليهم الذنب والخطأ من غيرِ توبةٍ، والأنبياء - عليهم السلام - يستدركُهم اللهُ فيتوب عليهم ويبين لهم)([5]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.