التوبة وظيفةُ العمر، وبدايةُ العبد ونهايته، وأول منازل العبودية وأوسطها وآخرها، وحاجتنا إلى التوبة ماسة، بل إن ضرورتنا إليها ملحة، فنحن نذنبُ كثيرًا، ونُفَرِّطُ في جنب اللهِ ليلًا ونهارًا، فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من ران الذنوب، فإن كان ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية([1]).
وإذا استعرضنا نصوص الكتاب والسنة؛ نجد أن الشارع الحكيم أولى التوبة اهتمامًا بليغًا، بل التوبة من أكثر الأعمال القلبية ورودًا في نصوص الكتاب والسنة، ويأتي ذكرُها في النصوص بأساليب مختلفة([2]).
منها ما هو أمرٌ مباشر بالتوبة مُوجَّهٌ لجميع المؤمنين، ومنها ما هو ترغيبٌ للذين أسرفوا على أنفسهم ألَّا ييأسوا من رحمة الله، ومنها ما هو إخبارٌ بأن الله يقبل التوبةَ عن عباده وهو التواب الرحيم، ومنها الإخبار أن الاتصاف بها من شيم أولياء الله من الأنبياء والمرسلين، ومنها أن التوبة تترتب عليها سعادة الدنيا والآخرة؛ وبيان ذلك فيما يلي:
المسألة الأولى ـ الأمر بالتوبة لعموم المؤمنين:
إن التوبة واجبةٌ على الدوام، فإن الإنسان لا يخلو عن المعصية، ولو خلا عن معصية بالجوارح، لم يخلُ عن الهمِّ بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يخلُ عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكرِ الله تعالى، ولو خلا عنه، لم يخلُ عن غفلةٍ وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله.
وكلُّ ذلك نقصٌ، ولا يسلم أحدٌ من هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير، أما أصل ذلك فلابد([3])؛ قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فإن التوبةَ واجبةٌ على كلِّ عبد في كلِّ حال، لأنه دائمًا يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور، أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب دائمًا)([4]).
وإذا كانت طبيعة البشر النقص والتقصير والذنوب والأخطاء، كما أخبر بذلك المصطفى r بقوله: ((كلُّ بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون))([5])، فإنما يتوجب على العبد التوبة إلى الله والاستغفار له.
ويأتي التأكيد على هذا الوجوب بالأمر الصريح من الله في آياتٍ كثيرة، والأمر الصريح من نبيه في أحاديث صحيحة بوجوبها وضرورتها، مما لا يترك المجالَ للعبد أن يتهاون بشأنها، بل يتبادر بالامتثال والتوبة والاستغفار.
قال الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].
في الآية أمرٌ صريح بالتوبة، مُوجَّه إلى أمة الإسلام بأجمعها، وقد وردت الآية في سياق دعوة النبي r قومَه كافةً إلى الدين الإسلامي، وبيان المضامين العامة التي احتوى عليها القرآنُ الكريم، حيث أخبر المولى أن كتابه العزيز مُحْكَمُ الآيات، ومُفَصَّلٌ من لدن الحكيم الخبير.
وأن مضمون هذا الكتاب هو الأمرُ بالتوحيد الخالص للهِ ربِّ العالمين، وأن محمدًا نذيرٌ وبشيرٌ، وأن من مضمون هذا الكتاب المُحْكَم الأمر بالاستغفار والتوبة إلى الله اللذين يترتب عليهما التمتع بالمتاع الحسن في الدنيا، والتفضل على العباد بالخير العميم جزاء أعمالهم.
وأما من تولى عن هذين العملين الجليلين والإيمان بهذا الكتاب المحكم فإنه يُخَافُ عليه العذاب الكائن في ذلك اليوم الكبير([6])، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فبيَّن أن من وَحَّدَهُ واسْتَغْفَرَهُ مَتَّعَهُ متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمى، ومن عَمِلَ بعد ذلك خيرًا زاده من فضله)([7]).
ويقول تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
بعد ما ذكر اللهُ جملةً من الأوامر التي يجب على المؤمن أن يتخلق بها، والنواهي التي يجب الابتعاد عنها، ولما كان لابد من وقوع سهو وتقصير، جاء هذا الإرشاد الرباني بأن يتوب المؤمنون إلى الله لعلهم بسبب إيمانهم بالله والتوبة إليه يفلحون([8]).
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (في قوله في آخر الآية: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، فوائد جليلة، منها (الأولى): أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيهٌ على أنه لا يخلو مؤمنٌ من بعضِ هذه الذنوب، التي هي: ترك غض البصر، وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة وما يتبع ذلك، فَمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ)([9]).
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
فقد أمرّ اللهُ بالتوبة النصوح في هذه الآية، وقد ذكر المفسرون في تفسيرها نحو ثلاثة وعشرين قولًا متقارب المعنى، ومِلَاكُ الأمر فيها أن يتوب توبةً صادقةً خالصةً بالعزم على أن لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبنُ إلى الضرع([10]).
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (قال عمرُ بن الخطاب وغيرُه من الصحابة والتابعين ؛ التوبة النصوح: أن يتوبَ من الذنبِ ثم لا يعود إليه، و"نصوح" هي صفة للتوبة، وهي مشتقة من النصح والنصيحة، وأصل ذلك هو الخلوص.
فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غِش، وإذا كانت كذلك كائنةً فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خَرَجَ من قلبه الشبهةُ والشهوةُ لم يَعُدْ إلى الذنبِ فهذه التوبةُ النصوحُ، وهي واجبةٌ بما أَمَرَ اللهُ تعالى)([11]).
ومن الأحاديث التي جاء فيها الأمر بالتوبة؛ قول النبي : ((يأيها الناس توبوا إلى اللهِ؛ فإني أتوبُ إليه في اليوم مائةَ مرةٍ))([12]).
ففي الحديث الأمر الصريح بالتوبة إلى الله والإكثار منها، ثم أكَّد هذا الأمر بإخبار النبي عن نفسه أنه يتوب إلى اللهِ في اليوم مائة مرة، فإن كان هذا حال النبي r الذي هو أفضل الخلق، وقد غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّم من ذنبه وما تأخر، وهو أتقى الناس لله وأخشاهم له، فكيف الحال بغيره الذي يذنب ليلًا ونهارًا، ويُفَرِّطُ في جنبِ اللهِ ويقصر؟! فالواجب عليه وعلى المؤمنين أجمعين أن يكثر من التوبة والاستغفار([13]).
ونخلص من خلال استعراضنا لهذه النصوص من الكتاب والسُّنة؛ أن التوبة واجبة على كل مؤمن، بل كل الناس بحاجة إليها، ولا يستغني عنها أحدٌ مهما بلغت درجتُه في العبادةِ والطاعةِ.
([2]) انظر: رسالة في التوبة، ابن تيمية، (1/319-326)، ومجموع فتاوى ابن تيمية، (10/310-313)، و(11/253-256).
([5]) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، (563)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، (704)، الحاكم في المستدرك (5/170)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، (2241).
([6]) انظر: تفسير الطبري، (15/229)، وتفسير البغوي، (2/385-386)، وتفسير ابن كثير، (2/568)، وفتح البيان، محمد صديق خان، (6/138-139)، وتفسير السعدي، ص(376).
([8]) انظر: تفسير البغوي، (3/290)، وتفسير ابن كثير، (3/379)، وتفسير القرطبي، (15/227)، وفتح البيان، محمد صديق خان، (9/212)، وتفسير السعدي، ص(567).
([10]) انظر: تفسير البغوي، (4/430- 431)، وتفسير ابن كثير، (4/502) وتفسير القرطبي، (21/96-100)، وفتح البيان، محمد صديق خان، (14/218)، وتفسير السعدي، ص(874).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.