الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد؛ فإن للتوبة معوقات كثيرة، تعيق التائب عن المسارعة بالتوبة، وتؤخره في القيام بها، وتدعوه إلى التريث والتسويف بها، فتمد أمامه الآمال البعاد، لتنسيه الاستعداد ليوم المعاد! وإذا اجتمعت هذه العوائق على الإنسان، وتكالبت عليه، فإنها ستصده عن باب التوبة، وتحول بينه وبين الأوبة، وتغرقه في الذنوب والعصيان، فلا يصحو إلا بعد فوات الأوان، ويبوء بالخيبة والخسران! ومعوقات التوبة الداخلية كثيرة، وهي أمور من داخل النفس الإنسانية، ومنها:
طول الأمل ونسيان الموت:
قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]
وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]
ورد الأمل في القرآن الكرم في هذين الموضعين فقط، ولم يرد في غيرهما، (والأمل بفتحتين؛ رجاء ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، وهو قريب المعنى من التمني، وقيل: افرق بينهما أن الأمل ما تقدم له سبب، والتمني بخلافه، وقيل: لا ينفك الإنسان من أمل، فإن فاته ما أمله عول على التمني، ويقال: الأمل إرادة الشخص تحصيل شيء يمكن حصوله، فإذا فاته تمناه)[1].
فالأمل مشغلة للمسلم والكافر، مشغلة للطائع والعاصي، مشغلة للتائب والمصر المجاهرن فهو يتوقع طول العمر، ويسوف بالتوبة وأعمال البر.
والمؤمل يتوقع طول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقي ومحبيه إلا خيرًا في العاقبة والمآل.[2]
وطول الأمل هذا علاجه ذكر الموت، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أكثروا ذكر هادم اللذات)، يعني الموت.[3]
وقد ورد النهي عن طول الأمل في السنة المطهرة في قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)[4]، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)[5].
وطول الأمل يدعو إلى التسويف بالتوبة، وتأخيرها مادام العمر طويلًا وفي الوقت متسعًا حتى يأتي الموت بغتة والعبد مؤمل يقول سوف أتوب غدًا! ولذا فالتسويف في أعمال البر مرفوض، والتؤدة في عمل الطاعة مذمومة، قال الأعمش، ولا أعلمه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)[6].
التعلق بسعة رحمة الله، والتواكل عليها:
القرآن الكريم مليء بالحديث عن رحمة الله، ومغفرته، لا تخلو سورة من سوره إلا فيها الكثير من ذلك، بل إن أكثر الآيات القرآنية لا تخلو من ذكر رحمة الله تعالى.
أسماؤه سبحانه كثير منها يدل على هذا، فهو سبحانه الرحمن، الرحيم العفو الغفور الغفار التواب غافر الذنب وقابل التوب... إلخ.
وهذا الأمر يبعث في نفوس المسرفين والخاطئين، التواكل والعجز، والكسل والتسويف في التوبة والعمل الصالح، والإسراف على النفس بالمعاصي والآثام.
وكان الأولى بهؤلاء مرض النفوس أن يجتهدوا في العبادة، حين يتعلقون برحمة الله تعالى، فإنها تبعث العزم على العمل والطاعة والشكر، ولكن في النفوس المطمئنة الطيبة، فمن رجى رحمة الله تعالى، تاب وأناب، وعمل الطاعات واجتنب السيئات.
وهذا الفهم الخاطيء، والتواكل المذموم حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)[7].
والمتتبع لآيات رحمة الله تعالى في القرآن الكريم، يجدها مقصورة على المؤمنين التائبين المنيبين، أما الكفرة والعصاة الصادين المعاندين فليس لهم نصيب منها ألبته! إلا إذا عادوا إلى الله، وتابوا إليه وأنابوا.
فقد بين الله سبحانه أن طاعته وعبادته، واستغفاره والتوبة إليه سبب لحصول الرحمة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، والآيات في هذا كثيرة.
ولقد قرن المولى عز وجل رحمته الواسعة للمؤمنين، بشدة عقابه للكافرين في مواضع عديدة من كتابه العزيز، منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50] والآيات في هذا كثيرة أيضًا.
فأين أولئك العصاة المسرفون من رحمة الله، إنهم يائسون منها، لأنهم حرموا أنفسهم هذه الرحمة الواسعة، بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، وبذنوبهم التي اقترفوها وهم واهمون، يعصون ربهم ويتعلقون برحمته، كأنهم في جهلهم يتوددون إليه سبحانه بالمعاصي والآثام!!
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن الحبيب لمن يحب مطيع[8]
الهوامش:
[1] فتح الباري، 11/236.
[2] انظر تفسير أبي السعود فقد ذكر كلامًا قريبا من هذا 5/65.
[3] أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت 4/479، برقم 2307.
[4] أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل 7/170.
[5] أخرجه البخاري في نفس الحديث السابق.
[6] أخرجه أبو داود برقم 5439، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، ص 4/252.
[7] أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب منه رقم الباب 25، وقال حديث حسن، 4/550، رقم 2459.
[8] ديوان الشافعي، ص 86.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.