الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد؛ فإن للتوبة معوقات كثيرة، تعيق التائب عن المسارعة بالتوبة، وتؤخره في القيام بها، وتدعوه إلى التريث والتسويف بها، فتمد أمامه الآمال البعاد، لتنسيه الاستعداد ليوم المعاد! وإذا اجتمعت هذه العوائق على الإنسان، وتكالبت عليه، فإنها ستصده عن باب التوبة، وتحول بينه وبين الأوبة، وتغرقه في الذنوب والعصيان، فلا يصحو إلا بعد فوات الأوان، ويبوء بالخيبة والخسران! ومعوقات التوبة كثيرة، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين خارجية وداخلية، ومنها:
جنود إبليس وهم القرناء:
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94، 95].
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلمأن لكل إنسان قرين من الجن موكل به، يزين له المعصية، ويحضه عليها، ويثنيه عن التوبة والعمل الصالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن)، قالوا: وإياك يا رسول الله! قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)[1].
وهذا القرين يلازم الإنسان كظله، لا يفارقه أبدًا، ولا يتركه في ليل أو نهار في صحة أو مرض، لا يدعه يقوم بأداء طاعة أو قربة لله تعالى إلا ثبطه عنها، أو نصحه بتأخيرها وتسويفها إلى وقت آخر، ويفتح أمامه الآمال ويبسط له في الأجل، ويوهمه أن هذا العمل يفعله في أي وقت شاء ومتى أحب، ولا يدعه يهم بمعصية إلا زينها له، وحببها إليه، وعلق بها نفسه، وسهل عاقبتها في قلبه، حتى يوقعه في شراكها.
ويقود إبليس لعنه الله هؤلاء القرناء جميعًا، ويحثهم على مواصلة الجهد لإضلال العبد وإفسادهم، ويعد جنوده بالتكريم إذا أضلوا ابن آدم، وأخرجوه من دينه.
فقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: (إذا أصبح إبليس بث جنوده، فيقول: من أضل اليوم ألبسته التاج، قال: فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوج، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت! ويجيء هذا فيقول: ألم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويلبسه التاج)[2].
أخلاء السوء وأصدقاء المعصية.
فقرناء السوء من أكبر المعوقات عن التوبة! وكيف لا يكونون كذلك وهم الذين يجرؤنه على المعصية، ويسهلون عليه مواردها الخبيثة، ويزينون له الوقوع فيها ومقارفتها، وقد ذكر الله قرناء السوء في غير موضع من كتابه العزيز، مبينًا خطرهم العظيم، وأثرهم الكبير على من ابتلى بصداقتهم.
فقال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27، 28]، ويقول أيضًا: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
وهذا يبين خطورة الصديق على صديقه، وقوة تأثيره عليه بحيث يصرفه عن الهدى إلى الضلالة، وعن الخير إلى الشر، وعن الطاعة إلى المعصية، وعن التوبة إلى الاصرار.
وقد حصل هذا لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلمعندما أدركه الموت ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلميدعوه إلى قول لا إله إلا الله ليشفع له بها عند الله، ولكن رفقاء السوء، وأخلاء الشر، شجعوه على البقاء على دين آبائه وأجداده، وأثنوه عن قول لا إله إلا الله.
فعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله)، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلميعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما والله لاستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113])[3].
وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما)[4].
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلمأهمية إختيار الصديق الصالح في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي)[5]، وقد أراد بالطعام هنا طعام الدعوة، لا طعام الحاجة، أما طعام الحاجة فيكون للؤمن ولغيره، ألا ترى قول الله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارًا ولم يكونوا مؤمنين.[6]
إن مجالسة صديق السوء، لا تنفك عن جلب الشر والويل على النفس، فإما أن يحترق المرء مع جليسه بناء المعصية، وقبح الخطيئة، وإما أن يجد أثرها برائحتها الكريهة، مما يفسد الطبع، ويؤذي الطبع، ويؤذي الروح، ويقلق الضمير، ويكون الجليس على خطر عظيم، ومجالسة الصالحين فيها نفع كبير للنفس في الدين والدنيا، فمجالستهم إن لم تدفع هذا الجليس لفعل الطاعات والحسنات، فإنه سيجد أثرها، ويتفيأ ظلالها ويشم عبيرها، من خلال أصحابه ونفوسهم الكريمة الطائعة.
إن مجالسة التائبين الطائعين بلا شك، خير معين على التوبة والإنابة والإستقامة.
[1] أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجن والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الباس، 8/139.
[2] رواه الحاكم في المستدرك 4/350، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، رقم 5/208، وانظر فتح الباري 8/341.
[4] فتح الباري 4/324.
[5] أخرجه الترمذي في كتاب الزهد باب حديث الرجل على دين خليله، رقم 2397، وقال إسناده حسن.
[6] كتاب العزلة للحافظ الخطابي، ص 142- 143.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.