الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، من الثمرات والنتائج المرتبة على التوبة أن التوبة من أجل العبادات، وأنها من شيم أوليائه الصالحين، وأنها واجبة على كل مؤمن، ولا يستغنى عنها أحد، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل مكروه إلا بها.
زيادة التائبين قوة إلى قوتهم:
هذا هو الأثر العاجل الذي وعد الله به قوم هود عليه الصلاة والسلام إذا تابوا وأنابوا إليه سبحانه: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقد اختلف المفسرون في معنى القوة هذه على قولين:
الأول: أنها القوة المادية، أي زيادة القوة في الصحة، وشدة البدن، وزيادة الطاقة في الجسم.[1]
والقول الثاني: أنها القوة المعنوية، أي أن ذلك كناية عن تكثير الأموال والأولاد، لأنهما قوام كل قوة.[2]
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى الجمع بين القولين، بأن المراد بالقوة هنا كل أنواع القوة المادية والمعنوية، فهي عامة تشمل كل أنواع القوة.[3]
قال ابن عطية: (ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد)[4].
وقد كانوا أصحاب قوة وشدة، ذوي أجسام طوال.
وكانوا معجبين بقوتهم، مفتخرين بها، كما أخبر المولى تبارك وتعالى عنهم بقوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15]
يقول الشوكاني في تفسير هذه الآية الكريمة: (كانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادورن على دفع ما ينزل بهم من العذاب، فرد الله عليهم...)[5].
ويقول ابن عاشور: (وكانوا معجبين بقوة أمتهم، وقالوا: { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، فلذلك جعل الله لهم جزاء ترك الشرك، زيادة قوتهم، بكثرة العدد وصحة الأجسام، وسعة الأرزاق، لأن كل ذلك قوة للأمة يجعلها في غني عن الأمم الأخرى، وقادرة على حفظ استقلالها، ويجعل أممًا كثيرة تحتاج إليها)[6].
ولا شك أن زيادة القوة هذه جامعة في البشارة لكل أنواع السعادات[7]، فتشمل جميع أنواع القوة المذكورة.
لكني أرى – والله أعلم – أن القوة في هذه الآية الكريمة وإن كانت عامة، تشمل جميع عناصر القوة، من أموال وبنين وجنات وقوة جسم وصحة عقل، إلا أنها أظهر في قوة الجسم وشدته، وصحة العقل ويقظته.
فإن القوم كانوا أقوياء أشداء، بل كانوا معجبين بقوتهم، ومفتخرين بها حيث كانوا يقولون: (من أشد منا قوة)، فوعدهم الله بالزيادة فيما يروا فيه، إن هم تابوا إلى ربهم، وآمنوا برسوله[8] هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن القرآن العظيم قد أفرد هذه العناصر بالذكر، فذكر القوة ثم أعقب ذلك بذكر الأموال والأولاد، كما قال سبحانه في سورة التوبة: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} [التوبة: 69].
وقد ورد في عذ الآثار تفسير القوة بهذا المعنى، فقد أخرج الطبري عن مجاهد في تفسير هذه الآية قوله: (أي يزيدكم شدة إلى شدتكم)[9].
يقول صاحب الظلال في بيان ذلك: (فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة، يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال، والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير، وهدوء الأعصاب، والإطمئنان إلى الله، والثقة برحمته في كل آن، ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارًا كرامًا، لا يدينون لغير الله....، كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض...)[10].
استغفار الملائكة للتائبين:
ورد استغفار الملائكة للتائبين في القرآن في موضعين اثنين، أولهما قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [غافر: 7- 9]
وثانيهما قوله سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الشورى: 5] وقد ذهب جمهور أهل التأويل إلى أن الآية الأولى، وهي آية غافر، مخصصة للآية الثانية، يعني آية الشورى.
وعلى هذا فمعنى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، أي للمؤمنين منهم.[11]
وعلى هذا فمعنى { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}، أي للمؤمنين منهم.[11]
قال ابن عطية في تفسير آية الشورى: (ظاهر هذه الآية العموم، ومعناها الخصوص في المؤمنين، فكأنه تعالى قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، إذ الكفار عليهم لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين)[12].
وإلى هذا ذهب ابن الجوزي أيضًا في تفسيره[13]، وفي نواسخ القرآن[14]، ورد على من زعم أن آية الشورى منسوخة بآية غافر حيث قال: (قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} زعم قوم منهم ابن منبه، والسدي، ومقاتل بن سيلمان، أنها منسوخة بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي آمَنُوا}، وهذا قبيح، لأن الآيتين خبر، والخبر لا ينسخ، ثم ليس بين الآيتين تضاد، لأن استغفارهم للمؤمنين استغفار خاص لا يدخل فيه إلا من اتبع الطريق المستقيم، فأولئك طلبوا الغفران والإعاذة من النيران وإدخال الجنان)[15].
والمراد بالذين تابوا في هذه الآية، هم الذين تابوا من الذنوب مطلقًا، وليست مختصة بالذين تابوا عن الشرك، قال الألوسي: (المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة، أي من الذنوب مطلقًا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق، واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده، ودعا إليها الإسلام)[16].
والمراد بالذين تابوا في هذه الآية، هم الذين تابوا من الذنوب مطلقًا، وليست مختصة بالذين تابوا عن الشرك، قال الألوسي: (المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة، أي من الذنوب مطلقًا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق، واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده، ودعا إليها الإسلام)[16].
وذهب جماعة أخرى من أهل التأويل إلى أن المراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي[17]، (والكلام على تقدير مضاف، أي وقهم جزاء السيئات... وجوز أن يراد بالسيئات المعنى المشهور، بدون تقدير مضاف)[18].
وهذا الأثر الكريم من آثار التوبة يبين فضل التوبة، ومحبة الله تعالى للتائبين، إذ جعل أكرم ملائكته يستغفرون لهم، ويدعون لهم بالثبات على التوبة والقبول، فهم أنصح عباد الله إلى عباد الله، فإنهم لا يحجبون استغفارهم عن أحد من التائبين، ولا يمنعونه عن أحد من المؤمنين.[19]
وما أجمل ما نقله ابن عطية في تفسيره، عن أحد الصالحين، في الإرشاد إلى التوبة والحث عليها، من خلاث فهم هذه الآية الكريمة حيث قال: (بلغني أن رجلًا قال لبعض الصالحين: أدع لي واستغفر لي، فقال له: تب إلى الله واتبع سبيله، يستغفر لك من هو خير مني؛ وتلا هيه الآية { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}).[20]
فما أكرم التائب على الله تعالى، نائمًا على فراشه، والملائكة يستغفرون له.[21]
الهوامش:
[1] انظر تفسير الطبري 15/359، تفسر القرطبي 9/51، معاني القرآن للنحاس 3/357.
[2] المرجع السابق.
[3] المحرر الوجيز 7/321، التفسير الكبير للرازي 18/11، تفسير القرطبي 9/51.
[4] المحرر الوجيز 7/321-322، التفسير الكبير للرازي 18/11.
[5] فتح القدير 4/510.
[6] التحرير والتنوير 12/96-97، وانظر محاسن التأويل 9/139.
[7] انظر التفسير الكبير، للرازي، ص 18/11.
[8] انظر المحرر الوجيز 7/321، والتفسير الكبير، للرازي 18/11.
[9] تفسير الطبري 15/359، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير 4/117.
[10] في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/1897.
[11] انظر المحرر الوجيز 13/ 142.
[12] المحرر الوجيز 13/ 142.
[13] زاد المسير 7/273.
[14] انظر نواسخ القرآن ص 448.
[15] المرجع السابق، ص 447.
[16] روح المعاني 8/24- 47.
[17] الكشاف للزمخشري 3/149.
[18] روح المعاني 24/ 48.
[19] تفسير القرطبي 15/ 295.
[20] المحرر الوجيز 13/11.
[21] تفسير القرطبي 15/295، فقد عزا هذه المقولة إلى خلف بن هشام البزار القارئ.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.