الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ هذه بعض الثمرات والنتائج المرتبة على التوبة، فإن التوبة من أجل العبادات، وأنها من شيم أوليائه الصالحين، وأنها واجبة على كل مؤمن، ولا يستغنى عنها أحد، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل مكروه إلا بها.
القلب أشرف الأعضاء وسيدها، وهي له تبع، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، كما قال عليه الصلوات وأتم التسليم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)[1].
وقد أكد المولى سبحانه أهمية القلب في كثير من الآيات القرآنية، فبين أن سلامته هي الأساس الذي ينفع العبد يوم القيامة، كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]
وبين سبحانه شدة تأثر القلب بالمعاصي والذنوبن فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم القولب إلى قسمين كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت في نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)[2].
وشبه القلب الذي لا يعي خيرًا بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه و(معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه، ولم يدخله شيء بعد ذلك)[3].
والسبب في نجاة القلوب وصفاتها، طاعة الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والسبب في هلاكها وسوادها مخالفة أوامر الله تعالى، وارتكاب المعاصي والذنوب.
قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]
والمعصية تطمس نور القلب، وتسوده، وتكدر صفاءه، وتحجبه كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقد نقل عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة أنه أعجب بالشافعي رحمه الله لما رأى فيه من الفطانة والذكاء فقال له: (إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية)[4].
فالذنوب تميت القلوب، وتكدر صفاءها، وتذهب نقاءها، وتطمس على أنوارها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ومن هنا كثرت أقاويل السلف في التحذير من الذنوب، وبيان آثارها على القلب خاصة، وعلى النفس الإنسانية عامة.
يقول الحسن البصري في تفسير قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، يقول: (الذنب على الذنب حتى يموت قلبه)[5].
وقال قتادة: (أعمال السوء، أي والله ذنب على ذنب، وذنب على ذنب حتى مات قلبه واسود)[6].
وقال مجاهد: (العبد يعمل بالذنوب فتحيط بالقلب، ثم ترتفع حتى تغشى القلب)[7].
ويقول ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها[8]
وقد بين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر وعلاجه، داء القلوب ودواءها، فداء القلوب هي المعاصي والذنوب، ودواؤها التوبة والاستغفار، وترك القلوب دون دواء يضعفها ويميتها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ})[9].
والنكتة السوداء هي الأثر القليل كالنقطة، وذلك كما يكون من وسخ في المرآة والسيف ونحوها، ويختلف ذلك على حسب المعصية وقدرها، وحمل هذه الصورة على الحقيقة أولى من جعلها من باب التمثيل والتشبيه.
وقد جاء بهذا التعبير (صقل)؛ ليزيد المعنى تجسيمًا، لأن الصقل هو الجلاء، فالمعنى نظف قلبه وصفى كالمرآة، لأن التوبة بمنزلة المصقلة، تمحو وسخ القلب، وتزيل ما عليه من السواد.[10]
وعلى هذا فالتوبة تزيل كل ما يتعلق بالقلب من كدر، وسواد، وسوء، وتطهره من ذلك كله، وتعيده نظيفًا طاهرًا كما كان، لا أثر للذنوب فيه.
ومن هنا فإننا مطالبون بالإكثار من التوبة والاستغفار، لتحصيل هذا الأثر العظيم من آثار التوبة.
وإذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مع علو مقامه، ورفعة شأنه يكثر من التوبة والاستغفار، فإن لنا فيه أسوة حسنة، وقد أمرنا بالإكثار من التوبة والاستغفار بقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله واستغفره في كل يوم مائة مرة أو أكثر من مائة مرة)[11].
الهوامش
[1] اخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/19 وانظر فتح الباري 1/126، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ص 5/50.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر الفتن التي تموج كموج البحر 1/89.
[3] شرح النووي على مسلم 2/173.
[4] انظر الجواب الكافي لابن القيم، ص 56.
[5] أخرجه الطبري في التفسير 30/63.
[6] المرجع السابق 30/63
[7] أخرجه الطبري في التفسير 30/64.
[8] الجواب الكافي، ص 62.
[9] أخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن، باب (74)، ومن سورة ويل للمطففين حديث رقم 3334، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/297 بنحوه، والحاكم في المستدرك 1/5.
[10] انظر تحفة الأحوذي، ص9/254.
[11] أخرجه الإمام أحمد في المسند، ص 4/261.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.