الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ إن عبودية التوبة من أحب العبادات إلى الله، وأكرمها عليه، فإن عبودية التوبة فيها الذل والانكسار والخضوع والتذلل لله، ما هو أحب إليه من كثير من الأعمال الظاهرة، وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة، فإن الذل والانكسار روح العبودية، ومخها ولبها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه، ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله، والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل، والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولًا ما لم يحصل بدون ذلك...، وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها)[1]، فكلما ازداد العبد تواضعًا وعبودية ازداد إلى الله قربًا ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره.[2]
فإن الغاية التي يسعى إليها كل مسلم هي محبة الله عز وجل، وهي تنال بأسباب عديدة، من أهمها التوبة إلى الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده، فإن التائب عنده محبة خاصة.[3]
ثم للتوبة عند الله سبحانه وتعالى منزلة ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر، كما مثله النبي صلى الله عليه وسلم بفرح الواحد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة، بعد فقدها، وأيس من أسباب الحياة، لم يجيء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في ارض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده، وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)[4].
فالتوبة سبب من أسباب رفع العقوبة وغفران الذنوب[5]، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فتوبة المؤمن واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب)[6].
فبالتوبة تصقل القلوب وتغفر الذنوب، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والمؤمن لا يزال يخرج من الظلمات إلى النور، ويزداد هدى، فيتجدد له من العلم والإيمان ما لم يكن قبل ذلك، فيتوب مما تركه وفعله، والتوبة تصقل القلب وتجليه مما عرض له من رين الذنبو، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14][7])[8].
ومن تمام نعمة الله على عبده أنه يبدل سيئاته حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (العبد المؤمن إذا تاب وبدل الله سيئاته حسنات انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية)[9].
فإن التوبة ليس لها جزاء أخروي فقط، بل بالتوبة تنال السعادة الدنيوية أيضًا، فالتوبة من أسباب نيل ما يتمنى العبد من الخيرات، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10- 12]، يخبر الله عن نوح عليه السلام حين أمر قومه بالاستغفار، وأخبرهم نوح أنهم إذا استغفروا الله، فإنه يرسل عليهم السماء مدرارًا أي يكثر الغيث عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويبارك لهم في أرضهم فيجعل لهم فيها جنات ويجعل لهم أنهارًا.
هذه بعض الثمرات والنتائج المرتبة على التوبة، والخلاصة أن التوبة من أجل العبادات، وأنها من شيم أوليائه الصالحين، وأنها واجبة على كل مؤمن، ولا يستغنى عنها أحد، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل مكروه إلا بها.
الهوامش:
[1] مجموع الفتاوى (15/55)
[2] مجموع الفتاوى (15/ 57)
[3] انظر: مجموع الفتاوى (10/ 294)، ومدارج السالكين (1/223)
[4] أخرجه البخاري في صحيحه (1097)، في كتاب الدعوات، باب التوبة، ومسلم في صحيحه (1098)، في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها.
[5] ذكر شيخ الإسلام عشرة أسباب تزول بها عقوبة الذنوب عن العبد، وأول هذه الأسباب التوبة إلى الله، انظر: الإيمان الأوسط (33).
[6] مجموع الفتاوى (15/ 53).
[7] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (13/ 333)، والترمذي في سننه (756)، في كتاب التفسير، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[8] رسالة في التوبة (1/237)
[9] مجموع الفتاوى (15/ 55)
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.