الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد، أذكر بعض أحكام التوبة التي وقفت عليها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة، أم لابد من استحضار جميع الذنوب؟
أجاب شيخ الإسلام رحمه الله على هذا السؤال بجواب مبني على ثلاثة أصول:
الأصل الأول: أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضي للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد، وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف.
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على آخر، قالوا: لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية الله لم يكن توبة صحيحة، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها.
وقد أجاب شيخ الإسلام على دليلهم، أن الخشية توجب العموم، أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر، وإنما يتوب مما يعلم قبحه.
وأيضًا، فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الآخر، فيتوب من هذا دون ذاك، كمن أدى بعض الواجبات دون بعض.
الأصل الثاني: أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض، فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه، أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما عرف في هذا نزاع إلا في الكافر إذا أسلم، فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان:
القول الأول: يغفر له الجميع لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم : (الإسلام يدم ما كان قبله)[1]، مع قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
والقول الثاني: أنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه، فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر، فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص، فإن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حكيم بن حزام: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: (من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر) [2]، فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن، لا عمن لا يحسن، وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر ومن لم يتب منها فلم يحسن.
وأجاب عن الآية التي استدل بها القول الأول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، أن المنتهى عن شيء يغفر ما قد سلف منه، لا يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما سلف من غيره.
أما الحديث: (الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها، والهجرة تهدم ما كان قبلها)، فمن المعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب.
الأصل الثالث: أن الإنسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها، وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا، لأن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور.
فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه، لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته، وأما التوبة المطلقة: وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تستلزم التوبة من كل ذنب، فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كالفظ المطلق، لكن هذه تصلح أن تكون سببًا لغفران المعين، كما تصلح أن تكون سببًا لغفران الجميع، بخلاف العامة فإنها مقتضية للغفران العام كما تناولت الذنوب تناولًا عامًا.[3]
فنخلص من هذا أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه، فتصح[4]، كذلك إذا كانت التوبة عامة بحيث لو استحضر جميع الذنوب تاب منها، ولم يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص فهي مقتضية لغفران الذنوب كلها، بخلاف إذا كانت التوبة مطلقة التي لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها، ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق فلا نجزم أنها مقتضية لغفران الذنوب، والله تعالى أعلم.
الهوامش:
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (73-74)، في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه (1192)، في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة، ومسلم في صحيحه (73)، في كتاب الإيمان، باب هي يؤاخذ بأعمال الجاهلية.
[3] انظر: مجموع الفتاوى (10/ 316- 328)، ومدارج السالكين (1/206- 207)
[4] الفرق بين التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، والتوبة من ذنب مع مباشرة ذنب آخر لا تعلق له به، قد ذكره ابن القيم في المدارج (1/207)، أما شيخ الإسلام لم يفصل الأمر بهذا التفصيل.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.