الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد تقدم بأن اللهَ أمرَ بالخوف، وأثنى على من اتصف به، بل وجعل الخوفَ شرطًا في صحة الإيمان، كما بيَّنَّا أيضًا أن الخوف هو الدافع إلى فعل المأمور وترك المحظور، (فالخوفُ من الله تعالى ينقسم إلى قسمين: الخوف من ذاته العلية، والخوف من عذابه، فتارةً يكون لمعرفته ومعرفة صفاته، وأنه لو أَهْلَكَ العالمين، لم يبالِ ولم يمنعه مانعٌ، وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي وخوفه من عذابه، وتارة يكون للأمرين جميعًا)([1]).
والحق عز وجل أَهْلٌ أن يُخَاف ويُرجى ولو لم يخلقْ جَنَّةً ولا نَارًا، فطاعتُه طلبًا لوجهه، والصبر على قدره([2])، فالذي يُهيج الخوفَ حتى يسكن القلب هو دوام المراقبة لله عز وجل في السرِّ والعلن، وذلك لعلمك بأن اللهَ تعالى يراك ولا يخفى عليه شيءٌ من حركاتك ظاهرًا وباطنًا، فعند ذلك يَجِلُّ مقامُه عليك في كل حركة ظاهرة وباطنة، وتحذر أن يرى بقلبك شيئًا مما لا يحبه ولا يرضاه، فمن ألزم قلبَه في الحركات كلها أن اللهَ تعالى يراه؛ رَجَعَ عن كلِّ ما يكره بعون الله، فطهر قلبه واستنار وسكنه الخوف([3]).
وأجهلُ الناس من أَمِنَهُ وهو ينادي بالتحذير من الأمن، فإن كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة، فكيف لا يخافه الضعفاء؟!([4])
وخوف المؤمن من ذات الجبار العلية المتحكمة بالأشياء، المطلعة على خبايا النفوس حقيقة بأن تخشى، وعلى قدر المعرفة بالله تعالى وبصفاته وجلاله وهيبته وعظمته تكون الخشية، وذلك كخوف الملائكة؛ قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
كذلك إجلالُ الله وتعظيمه ومعرفة حقارة النفس؛ قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، والإيمانُ بالله عز وجل: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، قال الشوكاني - رحمه الله -: (الوجل: الخوفُ والفزعُ، والمُراد أن حصول الخوف من اللهِ والفزع منه عند ذكره هو شأنُ المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين للهِ)([5]).
تذكر أن الله شديد العقاب، وما أعدَّه لأصحاب النار من الحميم والعذاب المقيم؛ قال تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16].
(قال أسد بن وداعة: كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشِه كأنه حبة على مقلى، فيقول: اللهمَّ إن ذِكْرَ جهنم لا يدعني أنام ... فيقوم إلى مصلاه.
وقال أبو سليمان الداراني: كان طاووس يفترشُ فراشَه ثم يضطجعُ عليه، فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى، ثم يثبُ فيدرجه ويستقبلَ القبلة حتى الصباح ويقول: طَيَّرَ ذِكْرُ جهنم نومَ العابدين.
وقال مالك بن دينار: قالت ابنة الربيع بن خيثم: يا أبتِ مالك لا تنام والناسُ ينامون؟ فقال: إن النارَ لا تدعُ أباك ينام.
وكان صفوان بن محرز إذا جَنَّهُ الليلُ يخورُ كما يخورُ الثورُ ويقول: منعَ خوفُ النار مني الرقاد.
وقال الحر بن حصين الفزاري: رأيتُ شيخًا من بني فزارة أمرَ له خالد بن عبد الله بمائة ألف فأبى أن يقبلها، وقال: أَذْهَبَ ذِكْرُ جهنم حلاوةَ الدنيا من قلبي، قال: وكان يقومُ إذا نامَ الناس فيصيح: النار النار النار.
وكان رجلٌ من الموالي يُقال له صهيب، وكان يسهر الليل ويبكي، فعوتب على ذلك وقالت له مولاته: أفسدت على نفسِك، فقال: إن صهيبًا إذا ذَكَرَ الجنَّةَ طالَ شوقُه، وإذا ذَكَرَ النارَ طالَ نومه.
وعن أبي مهدي قال: ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل، ثم ينتفضُ فَزِعًا مرعوبًا ينادي: النار النار ... شغلني ذكرُ النارِ عن النومِ والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثرِ وضوئه: اللهمَّ إنك عالمُ بحاجتي غير معلم، وما أطلبُ إلا فكاك رقبتي من النارِ)([6]).
والذي عَظُمَ به معرفةُ عظيمِ قَدْرِ العذابِ التخويفُ، والتخويف يُنال بالفكر، والفكرُ يُنال بالذكر، والذكر بالتيقظ من الغفلة؛ لأن الله عز وجل إنما يخوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا، ورجَّانا لُنرجيِّها، والتخويف تكلف من العبد بِمِنَّةِ اللهِ عز وجل وبفضله عليه([7]).
ومن الناس من يخافُ الموتَ لأجل العقاب الذي يوعد به، وهو لا محالة معترفٌ بذنوبٍ له وأفعال سيئة يستحق عليها العقاب، ومع ذلك فهو معترفٌ بحاكمٍ عدل يعاقبُ على السيئات لا على الحسنات([8]).
وأيضًا مراقبةُ اللهِ في السر والعلن، فمن عرف أن اللهَ مطلعٌ عليه لا تخفى عليه خافيةٌ؛ فإنه بلا ريبٍ سيكون خائفًا وجلًا من خالقه ومولاه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].
الهوامش:
([2]) انظر: الفتح الرباني والفيض الرحماني، عبد القادر الجيلاني، مصر، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، ص(68).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.