إذا كانت المحبة أصل الإيمان، فالخوف يستلزم المحبةَ ويرجع إليها، فإن الخائف يفرُّ من المخوف لينال المحبوب، فالخوف هو أصلُ وصول العبد إلى ما يرضي اللهَ عز وجل، وهذا من أبلغ المقامات، وهو الجالب للطاعات والمبعد عن المعاصي.
وذلك أن العبد كلما تَذَكَّر عذابَ الله وخافه كان حاجزًا ومانعًا من ارتكاب أي محذور يُغْضِبُ اللهَ سبحانه وتعالى، واشتمال قلب المؤمن عليه علامةٌ على صحةِ الإيمان، وهو أحدُ محركات القلوب الثلاثة، وقد جاءت النصوصُ من كتابِ اللهِ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمر به، والحث عليه، ومدح أهله.
وفيما يلي أذكرُ بعضًا من أساليب القرآن والسنة في الأمر به:
2- قد أمر الله بالخوف وأثنى على أهله:
سبق أن ذكرنا أن اللهَ أمر بالخوف في غيرِ ما آية في القرآن؛ قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى: {فإيَّايَ فَارْهَبُونِ}، وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وكما أمر اللهُ بالخوف، كذلك ذمَّ ضده، وهو الأمن من مكر الله، إذ لا يأمنُ من مكر الله إلا القومُ الخاسرون، وحقيقة الأمن من مكر الله جَهْلٌ باللهِ وقدرتِه، وثقةٌ بالنفسِ وعُجب بها[1].
قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7-8].
وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14].
ففي هذه الآيات ذَمٌّ وتوبيخٌ ووعيدٌ لمن أَمِنَ مكر الله، فلم يخف بأس الله وعذابه، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فالمؤمن يخافُ مكرَ الله، ومكرُ اللهِ أن يعاقبه على سيئاته، والكافرُ لا يخشى اللهَ فلا يخاف مكره، ومكرُه أن يعاقبه على الذنب لكن من حيثُ لا يشعر)[2]، ويقول أيضًا: (وكل من ادَّعى الأمنَ فهو جاهلٌ باللهِ وبما أخبر به عن نفسِه: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ})[3].
وقد أثنى اللهُ على أهلِ الخوف المتصفين به، وأخبر أنه يجازي مَنْ كانَ مِنْ أهلِه؛ قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36-38]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].
ولما ذكرَ اللهُ في الآيات التي قبلها الكافرين بآياته وما أَعَدَّ لهم من العذاب، ذَكَرَ المؤمنين وَوَصْفَهم وما أعدَّ لهم من الثوابِ، ومن وَصْفِهِ إياهم أنهم "تتجافى": أي ترتفع جنوبهم عن المضاجع، إلى ما هو ألذُّ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة الله تعالى، يدعون ربَّهم جامعين بين الوصفين خوفًا أن تُرَدَّ أعمالُهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذابِ اللهِ، وطمعًا في ثوابه)[4].
بل العابد الذي يريد وجهَ اللهِ والنظر إليه يدعو ربه خوفًا وطمعًا، ولا يتصور تركهما في أي دعاء، سواء أكان دعاء عبادة أو دعاء مسألة[5].
وكذلك في السنة جاء الثوابُ الجزيل على المتصفين بالخوف؛ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ، فَقَالَ: إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لإِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا لَمْ يُعَذِّبْهُ أَحَدًا، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِلرِّيحِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: "خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ، أَوْ مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ، فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ))[6].
فمن الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ثبت إسلامُه إلا بعد وجود شروط التكفير وانتفاء موانعه، وقد تكلم شيخُ الإسلام عن هذا الأصل كثيرًا، وكانت عمدته في تلك النصوص هذا الحديث، وبيان ذلك أن هذا الرجل أتى بأمرٍ هو كفر في نفسه، هو الشك في قدرة الله، وإنما فعل ذلك متأولًا، فكان تأويلُه مانعًا من تكفيره، حمله على هذا الشكِّ الخوفُ من اللهِ، فغفرَ اللهُ له بسبب هذا الخوف[7]، المهم هنا بيان ما يترتب على الخوف من الجزاء، وهو الغفران من هذه الذنوب مهما عظمت، واللهُ تعالى أعلم.
وكذلك جاء في حديث السبعة الذين يُظلهم اللهُ في ظله يوم لا ظل إلا ظله قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَرَجلٌ دَعَتْهُ امرأةُ ذات منصبٍ وجمال، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ))[8]، فسبعةٌ يظلهم اللهُ في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظله، فذكر رسولُ اللهِ هؤلاء السبعة، إذ كلٌّ منهم كمل العبادة التي قام بها: ومن هؤلاء الذين كملوا العبادة، العفيف الذي كمل الخوف من اللهِ فوقاه من الزنا[9].
الهوامش:
([6]) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى u، (3246)، ومسلم، كتاب التوبة، باب سعة رحمةِ اللهِ، ص(581).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.