الفروق بين الخوف والرجاء

الفروق بين الخوف والرجاء





الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فالخوف والرجاء متلازمان لا ينفكان عن بعضهما البعض، ولابد من الجمع بينهما للمؤمن، فلا يكون خوفًا وحده يؤدي إلى مجاوزة الحدِّ في الخوف؛ مما يُسَبِّب في ذلك إفراط أو تفريط بالخوف، (فالخوفُ صفةٌ تحتاج إلى التوسط والاعتدال، إذ لا يليق أن يَقِلَّ الخوفُ عند الإنسان حتى يقرب من درجة الغلظة أو الاستخفاف، ولا يجوز أن يسرف فيه صاحبُه حتى يقرب من اليأس أو القنوط)[1].
والمقصود بالوسطية هو الخوف القائم على مراقبة أحوال العبد من الله تعالى من عذابه وحسابه وعقابه ومن يوم القيامة، وهذا الخوف إذا بالغ المسلمُ فيه فإنه ينقلب من خوفٍ محمود إلى خوف مذموم، ولا يكون رجاءً وحده يُخرجه عن حدِّ الفضيلة؛ فيكون لهوًا صارفًا عن الإيمان بالله تعالى والاستجابة له.
والآيات الدالة على الجمع بين الخوف والرجاء في القرآن الكريم كثيرة؛ ومنها:
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49-50].
وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].
فيجتمع الخوفُ والرجاء في آيتين أو آية واحدة أو آيات متتالية، والخوف مستلزم للرجاء، كما أن الرجاء مستلزم للخوف عند المؤمن؛ لأن كل خائف راجٍ، وكل راجٍ خائف، ولهذا حسن وقوع الرجاء في مواضع يحسن فيها وقوع الخوف.
وقد ورد في سنن الترمذي أنه دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شاب وهو بالموت، فقال: ((كيف تجدك؟ قال: واللهِ يا رسول الله، إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اللهُ ما يرجو وآمنه مما يخافُ))[2]
قال المباركفوري: (قوله: ((كيف تجدك؟)) أي: كيف تجد قلبَك أو نفسك في الانتقال من الدنيا إلى الآخرة راجيًا رحمة الله، أو خائفًا من غضب الله؟ (أرجو اللهَ) أي: أجدني أرجو رحمتَه، (وإني) أي: مع هذا (أخاف ذنوبي) ؛قال الطيبي: علَّق الرجاء باللهِ والخوف بالذنب، وأشار بالفعلية إلى أن الرجاء حدث عند السياق، وبالاسمية، والتأكيد إلى أن خوفه كان مستمرًّا محققًا، ((لا يجتمعان)) أي: الرجاء والخوف، ((في مثل هذا الموطن)) أي: في هذا الوقت، وهو زمان سكرات الموت، وقوله ((إلا أعطاه ما يرجو)) أي: من الرحمة ((وآمنه مما يخاف)) أي: من العقوبة بالعفو والمغفرة)[3].
وقال الغزالي: (الرجاءُ والخوفُ جناحان بهما يطيرُ المقربون إلى كلِّ مقامٍ محمودٍ، ومطيتان بهما يقطع من طرقِ الآخرةِ كل عقبةٍ كئود، فلا يقودُ إلى قربِ الرحمن وروح الجنان، مع كونه بعيدَ الأرجاءِ ثقيلَ الأعباءِ، محفوفًا بمكارهِ القلوبِ ومشاقِّ الجوارح والأعضاء إلا أزمةُ الرجاء، ولا يصد عن نارِ الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفًا بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياطُ التخويفِ وسطوات التعنيف)[4].
وقال المناوي: (فطريقُ السلامةِ بين طريقين مخوفين مهلكين، طريق الأمن وطريق اليأس، وطريق الرجاء وطريق الخوف، وهو العدلُ بينهما، فمتى فقدتَ الرجاء وقعتَ في طرقِ الخوف، ومتى فقدتَ الخوفَ وقعتَ في الرجاء، فطريقُ الاستقامة طريقُ الأمن بينهما، فإن مِلْتَ عنه يمنةً أو يسرة هلكتَ، فيجب أن تنظر إليهما جميعًا، وتركب منهما طريقًا ممتدًّا بينهما دقيقًا وتسُلكهُ)[5].
ويوضح ذلك ابنُ الجوزي بقوله: (الخوفُ والرجاءُ هما الجناحان اللذان يوصلان إلى بَرِّ الأمان، فلابد من وجودهما في كلِّ زمان ليصلح سيرُ المؤمن في عبادتِه للهِ تعالى؛ ولذا كان لهما الأثر الأكبر في استقامةِ العبد وسلوكه الطريق المستقيم، وأنهما الموجبان لرحمةِ اللهِ ورضوانه)[6].
فحري بالمرء أن يأخذ التربية الإسلامية طريقًا ناجحًا في التربية، فعليه أن يسلك طريق الخوف والرجاء وأن يجعلهما قاعدةً أساسيةً في التربية وتهذيب النفوس، فلا يقوم بالتربية من مجال الخوف فقط، ولا يقوم من مجال الرجاء فقط، بل عليه أن يجمع بين الاثنين لكن تنجح التربية.
وهذا ما بَيَّنه المناوي حين قال: (وطريقُ الاستقامةِ ممتدٌّ بين الخوف والرجاء)، فما يقابلُ الخوفَ والرجاءَ في التربيةِ الإسلاميةِ - كأسلوب من أساليب التربية الإسلامية -، أسلوبُ الثوابِ والعقابِ؛ فعلى المربي ألَّا يستخدم الثواب فقط في تربيته، حتى لا يكون هناك فساد في التربية، ولا يستخدم العقاب فقط في تربيته حتى لا يكون تضجرًا ويأسًا في إصلاح الفرد.
بل عليه أن يجمع بين الثواب والعقاب وأن يوازنَ بينهما، ويضع كلَّ واحدٍ منهما في مكانه الصحيح في التربية الإسلامية، لأن صلاح الفرد وتربيته، والتربية الصحيحة على وفق الأسس والقواعد المنهجية الصحيحة المستنبطة من الكتاب والسنة؛ يكون بذلك صلاح المجتمع بأكمله.
قال ابنُ رجب: (مَنْ عَبَدَ اللهَ بالرجاءِ وحده فهو مرجئٌ، ومن عَبَدَه بالخوف وحده فهو حروري، ومَنْ عَبَدَ اللهَ بالحبِّ وحده فهو زنديقٌ، ومَنْ عَبَدَه بالخوفِ والرجاءِ والمحبةِ فهو موحدٌ مؤمنٌ)[7].
وبهذا يتبين أهمية التوازن لمن سلك سبيلَ التربية والإصلاح، بأن يتخذ الرجاءَ كسبيل وحيد في التربية، أو يتخذ الخوف وحيدًا في التربية، فالتربية الإسلامية تربيةٌ قد اتخذت أسسها وضوابطها وقواعدها ومنهجيتها من الكتاب والسنة، وعبادة الخوف والرجاء تُعتبر من الأسس البارزة في التربية الإسلامية، حيث أنها تتقلب في إعداد الإنسان المسلم في جميع نواحي الشخصية بين الخوف والرجاء وبين الثواب والعقاب، حتى تعد إنسانًا ناضجًا وصالحًا ونافعًا في مجتمعه وأمته.
 قال الغزالي: (والخوفُ والرجاءُ دواءان تُداوى بهما القلوب، فَفَضلُهما بحسبِ الداء الموجود؛ فإن كان الغالب على القلبِ داء الأمنِ مِنْ مكرِ اللهِ تعالى والاغترار به فالخوف أفضل، وإن كان اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل)[8].
قال النووي: (اعلم أن المختارَ للعبدِ في حالِ صحته أن يكونَ خائفًا راجيًا، ويكون خوفُه ورجاؤُه سواء، وفي حالِ المرض يمحض الرجاء)[9].
ويتضح مما سبق أن على الإنسان المسلم أن يجمع بين الرجاء والخوف، وهذا طريقُ الاعتدال، لأنه إن غَلَبَ على المؤمن الرجاءُ حتى فَقَدَ الخوفَ البتة قد يقع في طريقِ الأمن من مكر الله، وإن غَلَبَ عليه الخوفُ حتى فَقَدَ رجاءَ اللهِ قد يقع في طريق اليأس، وإن جَمَعَ بين الخوف والرجاء فهو طريقُ أولياء الله تعالى وأصفيائه.
كما يجب على كل مربي أن يعرف معنى التقابل بين الخوف والرجاء من الناحية التربوية، وغرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الناشئين، ليتسنى للمربي ترغيبهم في الجنة أو ترهيبهم من عذاب الله تعالى، حتى يكون لهذا الترغيب والترهيب ثمرة عملية سلوكية.
يقول النحلاوي: (وهكذا ينبغي أن نربي العواطف الربانية عند الناشئين باعتدال واتزان، فلا يتمادون في المعاصي مغترين برحمةِ اللهِ ومغفرته، مسوفين ومؤجلين توبتهم إلى اللهِ، ولا ييأسوا من نصرِ اللهِ ورحمته بدعوى أن المجتمع كله منغمسٌ في المعاصي، منحرفٌ عن الإسلام الصحيح، فيتركوا العملَ بشريعةِ اللهِ والدعوة إليها)[10].
فالانسان المسلم لديه القدرة على التمييز بين ما يضره وما ينفعه، كما أنه يستطيع أن يستجيب لأوامر التكليف، فيمتنع عن ما نُهي عنه، ويعمل بما أُمِرَ به؛ مما يجعل للترغيب والترهيب أثرٌ في سلوكه.
فينبغي على المربي أن يغرس هذه القيم في نفوس الناشئة، وأن يلبي حاجات الإنسان، فإذا كان الترغيب لا يلبي مطالبَ المتربي فإنه لا يأبه به، وبالتالي يكون ضعيفَ التأثير، فقد يُرَغَّبُ الفردُ بأشياء لا يحتاج إليها، أو أنها لا تُشْبِعُ رغباته؛ وبالتالي فإنه لا يبالي بها، والمقصود أن على المربي أن يعتدل في استخدام الخوف والرجاء، وأن يوازن بينهما، فلا يُغَلِّب أحدهما على الآخر، وأن يستخدم كل واحد منهما بحسب الحاجة.
وقد ورد ذكرُ الخوفِ في القرآن على خمسةِ أوجه:
الأول: النكبة تصيب المسلمين من قتل أو هزيمة؛ وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]، يعني القتل والهزيمة.
الثاني: القتال؛ وذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأحزاب: 19]، يعني القتال والحرب، وقال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، أي إذا انجلت الحربُ.
الثالث: العلم؛ وذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182]، يعني: فمن عَلِمَ.
الرابع: التنقص؛ وذلك في قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، أي: على تنقص.
الخامس: الخوف الذي نحن في صدد الكلام عنه، كالخوف من العذاب؛ وذلك في قوله تعالى: {أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 170]، يعني: من العذاب[11].

الهوامش:
([1]) موسوعة أخلاق القرآن، أحمد الشرباصي، ص(161).
([2]) رواه الترمذي، (988)، حديث حسن، ذكره السيوطي في جامع الأحاديث، (17/38).
([3]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، ببيروت، د،ت، (4/58).
([4]) إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/142).
([5]) فيض القدير، المناوي، دار الكتب العلمية، ببيروت، 1415هجرية، (2/78).
([6]) الخوف والرجاء في القرآن الكريم، عبد الله بن أسود الجوالي، ص(199).
([7]) التخويف من النار، ابن رجب، ص(25).
([8]) إحياء علوم الدين، الغزالي، (5/14).
([9]) رياض الصالحين، النووي، دار الأنوار المحمدية، القاهرة، ص(160).
([10]) أصول التربية الإسلامية وأساليبها، عبد الرحمن النحلاوي، ط27، دار الفكر، دمشق، 1430هجرية، ص(238).
([11]) انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروز آبادي، (2/578-579)، والقاموس المحيط، له، ص(1046)، ولسان العرب، ابن منظور، (2/180).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الفروق بين الخوف والرجاء doc
الفروق بين الخوف والرجاء pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى