الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فالخوفُ من الأعداء هو الخوفُ من جبروتهم وقوتهم وعددهم وعُدَّتِهم، (ويومًا بعد يوم يزداد الباطلُ وتكثرُ عُدَّته وتزدادُ أعدادُه، ويبدو مرعبًا ذلك الازدياد وهذه التطورات، بتصنيع الأسلحةِ المدمرةِ والأجهزةِ الإعلاميةِ الضخمة التي يملكُها الباطلُ، ولربما تسربَ شيءٌ من الخوفِ إلى نفسِ المؤمنِ من ذلك الباطل الضخم، ولكنَّ اللهَ يردُّ تلك المخاوف بقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
فالمؤمنُ مستيقنٌ أن ذلك التضخم الذي حدثَ للباطل إنما هو أورام ذات غشاءٍ رقيقٍ، مليئة بالميكروبات الخبيثة، جاءت غازيةً لذلك الجسمِ السليم، فكلما زادَ حجمُ هذه الأورام كلما دنا أجلُ انفقاعِها، ويخرج ذلك النتن ويعودُ الجسمُ إلى حالته السليمة)([1]).
فمن سُنَّة الله تعالى في كونه أن لا تكون رسالة إلا ويقابلها الجاحدون المعاندون بالصدِّ والتكذيب تارةً، وبإحاكة المكائد لها تارةً أخرى، فها هي الدعوة الإسلامية منذ فجرها جوبهت وحوصرت بأعدائها المشركين وأهل الكتاب، وصمد المسلمون في مواجهة أعتى القوى في ذاك الزمان، وتحملوا المصاعب في سبيل الدعوة، ولم تعرف نفوسُهم خوفًا من غيرِ خالقهم، لذلك لم ترتجفْ قلوبُهم إلا لله، ولم يذلوا ولم يداهنوا أعداءَهم حتى يسيروا مع الريحِ ويحموا أنفسَهم من المتاعب.
وما معركة مؤتة إلا أكبر دليلٍ على ذلك، فقد مضى المسلمون في ثلاثةِ آلاف مقاتل، وساروا بقوةِ الإيمانِ ورعايةِ الرحمنِ لمقاتلةِ الروم، الذين بلغَ عددُهم مائتي ألف مقاتل، فلما عَلِمَ المسلمون ذلك أقاموا ليلتين في معان يفكرون في أمرِهم.
وقالوا: نكتبُ إلى رسولِ اللهِ فنخبره بعددِ عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فقام عبدُ الله بن رواحة فشجَّع الناسَ وقالَ: (يا قومِ، إن الذي تكرهون للذي خرجتُم تطلبون، الشهادة، وما نقاتلُ الناسَ بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرةٍ، ولا نقاتلُهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللهُ به، فانطلِقُوا، فإنما هي إحدى حسنيين نصر أو شهادة)([2]).
فالله سبحانه وتعالى ينهى المسلمين عن خوفِ غيره، ويبين أن ذلك يُنْقِصُ الإيمانَ، وأن الواجب أن تكون الخشية خاصة بصاحب القدرة والعزة، الذي بيده الآجال والأرزاق، صاحب الجبروت والكبرياء؛ فقال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
فيقول اللهُ تعالى ذكره: (ألا تقاتلون أيها المؤمنون هؤلاء المشركين الذين نقضُوا العهدَ الذي بينكم وبينهم، وظَاهَرَوا عليكم أعداءَكم، وأخرجوا الرسولَ وهم بدءوكم بالقتالِ، أتخافونهم على أنفسِكم فتتركوا قتالَهم خوفًا على أنفسكم منهم؟! فاللهُ أولى بكم أن تخافوا عقوبتَه بترككم جهادهم، وتحذروا سخطَه عليكم من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله)([3]).
وقد نهانا اللهُ تعالى عن الخوف من الكفار في أكثر من آية كريمة؛ فقال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقد حاول أعداءُ الأمة النيل منها والإحاطة بها على مَرِّ العصور، فلم يتمكنوا من تحقيق مآربهم؛ لذلك توجهوا إلى إيغال الحرب النفسية التي تُذْهِبُ بالقلوب الضعيفة والنفوس المريضة.
لذلك نرى الغرب يطل برأسه على العالم الإسلامي، ويلوح له بمظاهر قوته ليرهبه، حتى رأينا في الأمة من لا يجرؤ على التكلم بأحكامِ الإسلام، بل يُغَيِّرُها تمشيًا مع الكفار، وخوفًا وهلعًا من أن يرد الحكم من قِبَل العقل الغربي.
والواقع المعاصر بأحداثه شاهد على ذلك، فتصوير السفنِ الحربية العملاقة وهي تجوبُ البحار والمحيطات، وتصوير الطائرات الحديثة وهي تجوبُ الفضاء، وتصويرُ القنابل العملاقة وهي تُلقى على الجبال، ونشر معلومات بأن الدولة العظمى تراقبُ الثكنات، وتَعُدُّ على الناسِ الأنفاس، كل هذه الأمور وغيرها ما هي إلا جزء من الحرب النفسية التي تخوضها الدولةُ العظمى في سبيلِ إضعاف الروحِ المعنوية للمسلمين.
وتُعَرَّفُ الحرب النفسية بأنها: استخدام مخطط من جانبِ دولةٍ أو مجموعةٍ من الدول، في وقتِ الحربِ أو في وقت السِّلم، لإجراءت إعلامية بقصد التأثيرِ في آراء وعواطف ومواقف وسلوك جماعات أجنبية معادية أو محايدة أو صديقة، بطريقةٍ تساعد على تحقيق سياسةِ وأهداف الدولة أو الدول المستخدِمَة([4]).
نخلص من ذلك أن الحرب النفسية تستطيع ما هو أخطر وأعمق أثرًا من الحرب العسكرية، إنها تُجَرِّدُ الإنسان من أثمن ما لديه، وهو "إرادته القتالية"، فهي تستهدفُ في المقاتل أو المواطن عقلَه وتفكيرَه وقلبَه وعواطفَه، لكي تحطم روحَه المعنوية وتقوده إلى الهزيمة.
فالحرب النفسية كان المسلمون أساتذتَها وسابري أغوارها؛ ففي كتاب الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فنلاحظ كيف أن الإرهاب النفسي يكون بالإعداد فقط دون قتال، وهذا الفن أتقنه الذي نُصِرَ بالرعبِ مسيرةَ شهر، فبعد معركةِ أُحُد والمسلمون محاصرون في الجبل، انتبه النبيُّ للعامل النفسي، فأبى أن يجمعَ على المسلمين الهزيمة العسكرية والنفسية، فأمرَ المسلمين بالردِّ على أبي سفيان؛ فكان الجواب: (اللهُ مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنةِ وقتلاكم في النارِ).
فَتَجَمُع الغرب والأعداء يجب أن لا يزيد المسلمين إلا قوةً، كما زاد أسلافهم الأطهار حيث مدحهم اللهُ تعالى بعد غزوة أُحد، وهم خارجون من شرِّ هزيمةٍ؛ فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.