الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله ثم أما بعد؛ الخوف شعور فطري أوجده الله تعالى في النفس البشرية، يقوى ويضعف حسب الحالة التي يكون فيها الإنسان، فلا يخلو شخصٌ من هذا الشعور، وها هو القرآن الكريم يصفُ نبيَّ اللهِ وهو في حالة الخوف الشديد فيقول: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، ولكن هذا الخوف منه ما هو مشروع، ومنه ما هو غير مشروع، وفيما يلي تفصيل في ذلك.
عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلًا سأل النبيَّ وقد وضع رجله في الغرر([1]): ((أي الجهادِ أفضل؟ قال: كلمة حقٍّ أمامَ سلطانٍ جائر))([2]).
من هو السلطان الجائر الذي يخاف منه؟ هو ذاك الشخص الذي تولى مقاليد حكم الأمة، فلم يراعِ حقَّ اللهِ فيها، فبطش وتجبر، وظلم وبغى، ولم يرجف له لذلك جفن، فلا يساوي بين الناس، وقد صمَّ أذنيه فلم يسمع قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أميرٍ يلي أمرَ المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخلْ معهم الجنةَ))([3])، وقد حذَّر اللهُ تعالى من الميل إلى الظالمين والرضا بأعمالهم وعدم ردعهم عن الظلم خوفًا منهم؛ فقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
فينبغي أن لا يسكت المسلمُ عن الحقِّ، وأن يرفع صوته أمام السلطان عاليًا إذا كان هناك اعتداء صريحٌ على الدين، أو تضليل الأمة، وقد نرى في واقعنا المعاصر أن الأمة قد ابتُليت بهذا النوع من الخوف، نرى أن كلمة الحق لا ترتفع مخافةَ أن تكون لها تبعات لا يُحمدُ عقباها.
فالسلطان الظالم عندما يرى الناسَ تهابه يتمادى في ظلمه، فلابد من أحدٍ يأخذ على يده بقوة الدين، فها هو فرعون حَكَمَ بني إسرائيل وأفسد في الأرض ظلمًا واستكبارًا، وصوَّر من نفسه البشرية الناقصة إلهًا، يفرض على الناس عبودتهم من دون الله، وقد ظلم وطغى وأنزل الخسف في بني إسرائيل وسامهم سوءَ العذاب، وأطفأ أمامهم سراج الأمل.
فأمر اللهُ تعالى موسى u أن يذهب إلى فرعون ليهديه سبيلَ الرشاد، وأمدَّه اللهُ تعالى بحجتين يتقوى بهما موسى، فتهيب الموقفَ واستعظمَ الأمر، فإن على موسى ثأرًا قديمًا لفرعون، فهم يطلبونه منذ أمد، فشأنه شأن خطير، وأمره أمرٌ كبير، فدعا ربَّه أن يشرح صدره وييسر أمره، وأن يرسل معه أخيه هارون نبيًّا، فأجاب اللهُ تعالى الدعاء.
فذهبا إلى ذلك الطاغية بنفوس واثقة بنصر الله، وقلوب منعقدة على يقين الإيمان، فلم يهابا سلطانه، فطلب موسى منه أن يرسلَ معه بني إسرائيل ويخلي سبيلهم، فسأله الطاغية: من ربُّك يا موسى؟ فقال موسى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فثار فرعونُ واضطربت نفسُه، وعجزت حجتُه أمام آيات الله الساطعة؛ فعمد إلى قوته وقال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، فلم يأبه موسى لتهديده، ومشى في تحقيق نداء ربه؛ فكانت العاقبة أن نصره اللهُ تعالى، وأغرق الطاغيةَ وجنده، والعاقبةُ للمتقين.
ونرى إبراهيمَ يقف أمام النمرود وقفةً صلبة، هزت كيانه وزعزعت سلطانه،كيف لا وهو المبعوث من الله تعالى برسالة الحق واليقين؟!
فقد انتهى خبرُ إبراهيمَ إلى النمرودِ فدعا إبراهيمَ إليه، فلما مَثَلَ بين يديه صوَّب إليه نظره وقال: ما هذه الفتنة التي أيقظتَها؟! وتلك النار التي أشعلتَها؟! وما هذا الإله الذي تدعو إليه؟! هل تعرف ربًّا غيري؟! وإلهًا يستحق العبادة دوني؟!
فأجابه إبراهيمُ في ثبات جَنان وطلاقة لسان: ربي الذي يحيي ويميت!! فأخذت النمرودَ العزةُ بالإثمِ وقال: أنا أُحْيي من أشاء بالعفو عنه، فينعم بالحياة بعد أن تَمَثَّل له شبحُ الموت، وأنا كذلك أُميتُ من أشاءُ بأمري وأقضِي عليه بحكمي!!
فأجابه إبراهيمُ: إنَّ اللهَ سَخَّرَ الشمسَ، وجعلَ لها نظامًا لا تحيد عنه، فهو يأتي بها من المشرقِ، فإن كنت كما تدَّعي قديرًا وكما تزعمُ إلهًا، فَغَيِّر هذا النظام الذي جرت به سنةُ اللهِ، وأْتِ بها من المغرب؛ فبُهِتَ الذي كفر، إذ بان ضلالُه، وظهر كذبُه، وبدت جهالتُه، فقد قرعته الحجة البالغة وصدمته الآيةُ البينة([4]).
وقد صوَّر اللهُ تعالى الحوار الذي دار بين إبراهيم والنمرود بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
وقد سطَّر تاريخُنا الإسلامي صفحات نُسِجَت من نور لمواقف إيمانية بطولية وقفها علماء أتقياء أمام جبروت الطغاة، فلم يزدهم جبروتُهم إلا قوةً وصلابةً، فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية يجتمع بقازان طاغية التتار، (فأخذ يُحَدِّث السلطان بقولِ الله ورسوله، وفي العدل وغيره، ويرفع صوتَه على السلطان، والسلطانُ مع ذلك مُقْبِلٌ عليه بكلية، مُصغٍ لما يقول، شاخص لا يُعْرِضُ عنه.
فقال الشيخُ للترجمان: قل لقازان: أنت تزعمُ أنك مسلمٌ، ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخٌ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وما عَمِلَا الذي عَمِلْتَ، عاهدا فوفَّيا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ، وقلتَ فما وَفَّيتَ، ثم خرج من بين يديه مكرمًا معززًا، وكان سببًا لتخليصِ غالب أسارى المسلمين من أيديهم)([5]).
وهكذا يجب أن يكون المسلم في كلِّ وقت وفي كل حين أمام الطغاة المتكبرين، ماردًا لا يُقهر، وصلبًا لا ينكسر، إن خوفَ الظالمِ أو خشيةَ الظلمِ نفسه شعورٌ إنساني طبيعي، وقد لا يُلامُ الإنسان على وقاية نفسه من وقوعِ الظلم عليه، غيرَ أن خشية الظلمِ أو الظالم ما ينبغي أن تسمح للمؤمن أن يتجنب لزومه للحق وتواصيه به مع غيره وصبره عليه.
والمؤمن الذي يعمل من أجل الإسلام، ويساهم في بناء كيانٍ إسلامي وحكومة مسلمة تُحِكِّم شرعَ الله في عباد الله، هذا المؤمن ما يجوزُ له أن يتوقف عن العمل، أو يفتر فيه أو يكسل، خوفًا من ظالم أو ظلمٍ، وكيف يخاف وهو المؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ففيم الخوف إذن؟!
إن أحدنا وهو جنين في بطن أمه من ساعة تُنفخ فيه الروح يُؤمر المَلَكُ بكتابة رزقه وأجله وعمله، وشقي هو أو سعيد، فأين المفر مما كتبَ اللهُ وما قضى؟!
الهوامش:
الهوامش:
([1]) الغرز: ركاب كور الجمل إذا كان من جلدٍ أو خشب، انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، (3/359).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.