الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فالخوف يقع تارة عبادةً، وتارة طبيعةً وعادةً، وذلك بحسب متعلقاته وأسبابه، والمُطَّلِع على كلام شيخ الإسلام يرى أنه لم يُقَسِّمْ الخوفَ تقسيمًا كما نجده عند الشيخ سليمان بن عبد الله وغيره([1])، إلا أننا نستطيع أن نستشهد ببعض أقواله على كل قسمٍ من هذه الأقسام؛ فأقول:
قد قسَّم العلماءُ الخوف من حيث عمومه إلى قسمين:
1- الخوف التعبدي:
وهو خوف تَأَلُّه وتعبُّد وتقرُّب بذلك الخوف إلى من يخافه وهو الله سبحانه وتعالى، وهو يحمل العبدَ على فعل الطاعات، ويزجره عن الوقوع في المحرمات، وهو مبني على التعظيم والتقديس، وهو لا يجوز صرفه لغير الله، ولا يكون العبد مسلمًا إلا بإخلاصه لله عز وجل، وقد جاء النهي عن صرفه لغير الله؛ قال تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة 44]([2]).
فصرف الخوف لغير الله تعالى شركٌ، إذ لا يخاف الإنسان أحدًا الخوف التعبدي إلا إذا اعتقد في قلبه أنه يملك نفعه أو ضره، أو يشارك في ملك الله، واعتقاد مثل هذا شرك أكبر([3])، بعبارة أخرى اعتقاد إيجاد المسببات - النفع أو الضر - بدون مباشرة الأسباب إلا الله عز وجل شرك([4])، وهذا الذي سمَّاه الشيخ سليمان "خوفَ السر"([5]).
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فمن سوَّى بين الخالقِ والمخلوقِ في الحبِّ له أو الخوف منه والرجاء له فهو شركٌ)([6])، ودون خوف السر هذا هو الخوف من الناس، الذي يؤدي إلى ترك ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا محرم، وهو شعبة من الشرك([7]).
2- الخوف الطبيعي:
كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يُخشى ضرره الظاهري، لأن هذا الخوف يحصل بغير اختيار العبد، فهو ليس خوف عبادة، وهذا إذا كان خوفًا محققًا قد انعقدت أسبابه فليس بمذموم.
فإن كان هذا خوفًا وهميًّا؛ كالخوف الذي ليس له أسباب أصلًا، أو له سبب ضعيف، فهذا مذمومٌ يُدْخِلُ صاحبَه في وصف الجبناء، فهو من أخلاق الرذيلة، ولهذا كان الإيمان التام والتوكل والشجاعة تدفع هذا النوع([8]).
- أقسام الخوف من حيث المحمود والمذموم:
والخوف سوطُ اللهِ تعالى، يسوق به عبادَه إلى العلم والعمل لينالوا رتبةَ القرب من الله تعالى، والخوف له إفراطٌ وله اعتدال وله قصور، والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة؛ فإن الأصلح للبهيمة ألا تخلو عن سوط.
وليس المبالغة في الضرب محمودة، ولا المتقاصر عن الخوف أيضًا بمحمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية أو سبب هائل فيورث البكاءَ، فإذا غاب ذلك السبب عن الحسِّ رجع القلبُ إلى الغفلةِ، وهذا هو الغالب على الناس كلهم إلا العارفين والعلماء، أعني العلماءَ باللهِ وآياته، وقد عَزَّ وجودُهم، أما المتمرسمون برسم العلم فإنهم أبعد الناس عن الخوف.
وأما القسم الأول وهو الخوف المفرط، فهو كالذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم، لأنه يمنع من العمل، وكل ما يُراد لأمرٍ فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه، وفائدة الخوف الحذر، والورع والتقوى والمجاهدة، والفكر والذكر، وسائر الأسباب التي توصل إلى الله.
من الناس من يَغْلُبُ على قلبِه خوفُ الموت قبل التوبة، ومنهم من يَغْلُبُ عليه خوفُ الاستدراج بالنعم أو خوف الميل عن الاستقامة، ومنهم من يَغْلُبُ عليه خوفُ سوء الخاتمة، وأعلى من هذا خوف السابقة؛ لأن الخاتمة فرع السابقة.
ومن الخائفين من يخاف سكرات الموت وشدته، أو سؤال منكر ونكير، أو عذاب القبر، ومنهم من يخاف الوقوف بين يدي الله تعالى، والخوف من المناقشة، والعبور على الصراط، والنار وأهوالها، أو حرمان الجنة أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى، وأعلاها رتبةً خوف العارفين، وهو خوف الحجاب عن الله تعالى، وما قبل ذلك خوفُ العابدين.
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.