منزلة الخوف من الله في القرآن

منزلة الخوف من الله في القرآن






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد:..
1- الخوف من اللهِ من أعظم النعم على الإنسان؛ قال الله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الشمس: 23]، قال الطبري - رحمه الله -: قيل إن معنى ذلك: أَنْعَمَ اللهُ عليهما بالخوف[1].
2- الخوف من اللهِ يمنعُ الإنسانَ من الوقوع في الكبائر والإصرار على الصغائر؛ قال تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشمس: 28]، حين تغلي النفسُ البشرية وتهيجُ غضبًا فإنها تلجأُ إلى الانتقام والعداوة المفرطة، ومن يخافُ اللهَ عز وجل تجده وقافًا عند حدودِ اللهِ سبحانه وتعالى لا يتجاوزها، فأثمر هذا العملُ القلبي - الخوف من الله - ورعًا وتقوى وبُعدًا عن الحرام.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
وقد كَلَّفَ اللهُ البشريةَ بتكاليف عظيمةٍ لا يعمل بها إلا من يخافُ اللهَ ويخشاه بالغيب؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].
قال الشوكاني - رحمه الله -: ليعلم اللهُ من يخافه بالغيبِ؛ أي: ليتميز عند اللهِ من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي، فإنه غائب عنكم غير حاضر[2].
3- الخائفون هم الذين يتدبرون آياتِ الله ويتعظون بها؛ قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].
وقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، وقال تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 37].
وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، قال ابنُ القيم: واللهُ تعالى أخبرَ أنه إنما تنفعُ الآيات والنذرُ لمن صَدَّقَ بالوعيدِ وخافَ عذابَ الآخرةِ، فهؤلاء هم المقصودون بالإنذارِ والمنتفعون بالآيات دون من عداهم[3].
4- الخائفون هم الذين يُسْكِنُهم اللهُ الأرضَ من بعد القوم الظالمين؛ {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
5- الخوف من صفات المؤمنين الموحدين؛ قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
6- الخائفون لا يتأخرون عن المسارعة إلى الخيرات، ولا تلهيهم المغريات، بل يسارعون إلى الطاعات، ويؤدون الواجبات؛ قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
قال البيضاوي: {يَخَافُونَ يَوْمًا} مع ما هم عليه من الذكر والطاعة: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، تضطرب وتتغير من الهول أو تتقلب أحوالها، فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه، وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك، والأبصار من أي ناحية يُؤخذ بهم ويؤتى كتبهم[4].
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، قال البغوي: {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} يعني: المؤمنين، وقال الحسن: الخائفين[5].
وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21].
قالت عائشةُ زوج النبي صلى الله عليه وسلم: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال: "لا يا بنت الصديقِ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات"[6].
8- الخائفون موعودون بالجنان ونيل رضى الرحمن؛ قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَافَ أَدْلَج، ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المنزِلَ، ألا إن سلعةَ اللهِ غالية ألا إنَّ سلعةَ اللهِ الجنة"[7].
9- الخائفون يظلهم اللهُ في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ عن أبي هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه"ُ[8].
قال المباركفوري: الظاهر أنه يقول ذلك بلسانه، إما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه، قاله عياض، قال القرطبي: إنما يصدرُ ذلك عن شدةِ خوفٍ من اللهِ تعالى ومتينِ تقوى وحياء[9].
10- الخائفون هم الذين يستجيب اللهُ دعاءهم؛ قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16]، {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال سهل بن عبد الله التستري: شروطُ الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء، والمدوامة، والخشوع والعموم، وأكل الحلال[10].
وقال الشوكاني: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} وفيه أنه يُشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفًا وجلًا طامعًا في إجابةِ اللهِ لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعًا بين الخوف والرجاء ظفرَ بمطلوبه[11].
يقول ابنُ رجب - رحمه الله -: إنَّ اللهَ خلقَ الخلقَ ليعرفوه، ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونَصَبَ لهم الأدلةَ الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوفَ الإجلال، وَوَصَفَ لهم شدةَ عذابه ودارَ عقابه التي أعدها لمن عصاه؛ ليتقوه بصالح الأعمال.
لهذا كرَّرَ سبحانه وتعالى في كتابه ذكرَ النار وما أعدَّه فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال، إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال، ودعا عبادَه بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمرُ به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
فمن تأمل الكتابَ الكريم، وأدار فكره فيه؛ وجد من ذلك العجبَ العُجاب، وكذلك السُّنة الصحيحة التي هي مُفَسِّرَة ومبينة لمعاني الكتاب، وكذلك سير السلف الصالح أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من تأملها عَلِم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، وأن ذلك هو الذي رقاهم إلى تلك الأحوال الشريفة، من شدةِ الاجتهاد في الطاعات والانكفاف عن دقائق الأعمال والمكروهات فضلًا عن المحرمات[12].
وهذه جولةٌ في كتاب الله مع هذه المنزلة، منزلة الخوف من الله:
قال تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49-50].
وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 14-15].
وقال تعالى عن المؤمنين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41]، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
وقال: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37].
وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
 

الهوامش:
([1]) تفسير الطبري، (4/517).
([2]) فتح القدير، الشوكاني، (2/112).
([3]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/145).
([4]) تفسير البيضاوي، (1/192).
([5]) تفسير البغوي، (1/89).
([6]) رواه الترمذي، (3175)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2537).
([7]) رواه الترمذي، (2450)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (6222).
([8]) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، (660)، ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، (1031).
([9]) تحفة الأحوذي، المباركفوري، (7/58-59).
([10]) تفسير القرطبي، (2/303).
([11]) فتح القدير، الشوكاني، (2/311).
([12]) التخويف من النار، ابن رجب، ص(6-7).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
منزلة الخوف من الله في القرآن doc
منزلة الخوف من الله في القرآن pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى