ابنُ الجوزي وَكشفُ عوراتِ الصوفيةِ

ابنُ الجوزي وَكشفُ عوراتِ الصوفيةِ



ابنُ الجوزي وَكشفُ عوراتِ الصوفيةِ

مركزُ التأصيلِ للدراساتِ وَالبحوثِ

للإمامِ ابنِ الجوزي مصنفان هامان في الردِّ على الصوفيةِ؛ وهما: تلبيسُ إبليس، وصيدُ الخاطر، فأفردَ فيهما أبوابًا كثيرةً لبيانِ حالِ الصوفيةِ، والردِّ عليهم منهجيًّا وعلميًّا، ففيهما أعابَ على الصوفيةِ (تركَهم للعلمِ، وتنفيرَ الناسِ منه، واقتصارَ بعضِهم على القليلِ منه بدعوى الاكتفاءِ بعلمِ الباطنِ، ولا حاجةَ للوسائط، وإنما هو: قَلْبٌ وربٌّ).

لذلكَ انحرفَ أكثرُهم في عباداتِهم، وقَلَّتْ علومُهم، وتكلموا في الشرعِ بآرائِهم الفاسدةِ، فإذا أسندوا فإلى حديثٍ ضعيفٍ أوْ موضوعٍ، أوْ يكونُ فهمُهم منه رديئًا؛ وإذا خاضوا في التفسيرِ كانَ غالبُ كلامِهم خطأً وهذيانًا، ولجهلِهم بالشرعِ وابتداعِهم بالرأي ابتكروا مذهبًا زَيَّنَهُ لهم هواهُم، ثُمَّ تطلبوا له الدليلَ مِنَ الشرعِ، فاستدلوا بآياتٍ لم يفهموها، وبأحاديثَ لها أسبابٌ وجمهورُها لا يثبتُ.

وقفَ الإمامُ أبو الفرج ابنُ الجوزي مِنَ الصوفيةِ موقفًا صلبًا وحازمًا، كشف فيه كُلَّ الضررِ الذي ألحقوه بأمةِ الإسلامِ، فذكرَ تلبيسَ الشيطانِ عليهم في الكثيرِ مِنْ مواقفِهم وأقوالِهم وأفعالِهم التي أفسدتَ وهمَّشَتْ الدينَ في نفوسِ المسلمين، وحوَّلتْه إلى رقصٍ ومجونٍ وتلاعب بالثوابت في الأوامر وَالمنهياتِ.

فالإمامُ الحافظُ الشهيرُ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي، وَصَفَهُ ابنُ خلكان بأنَّه "إمامُ وقتِه"، وقالَ عنه الإمامُ الحافظُ ابنُ كثير في "البداية والنهاية" أنَّه "أحدُ أفرادِ العلماءِ"، بَرَزَ في كثيرٍ مِنَ العلومِ، وجَمَعَ المصنفاتِ الكبارَ والصغارَ، نحوًا مِنْ ثلاثمائة مصنفٍ، وكتبَ بيدِه نحوًا مِنْ ألفي مجلدةٍ.

وتفرَّدَ بفنِ الوعظِ الذي لم يسبقْ إليه مثلُه، ولَا يُلْحَقُ شأوه فِي طريقتِه وشكلِه، وفي فصاحتِه وبلاغتِه وعذوبةِ كلامِه، وحلاوةِ ترصيعِه، ونفوذِ وعظِه، وغوصِه على المعاني البديعةِ، وتقريبِه الأشياءَ الغريبةَ فيما يُشَاهَدُ مِنَ الأمورِ الحسيةِ، بعبارةٍ وجيزةٍ سريعةٍ.

هذا وله في العلومِ كلِّها اليدُ الطولى، والمشاركاتُ في سائرِ أنواعِ العلومِ مِنَ التفسيرِ وَالحديثِ والتاريخِ والحسابِ، والنظرِ في النجومِ، وله مِنَ المصنفاتِ في ذلكَ ما يضيقُ هذا المقامُ عَنْ تعدادِها، وحَصْرِ أفرادِها ...[1].

للإمامِ ابنِ الجوزي مصنفان هامان في الردِّ على الصوفيةِ؛ وهما: تلبيسُ إبليس، وصيدُ ‏الخاطر، فأفردَ فيهما أبوابًا كثيرةً لبيانِ حالِ الصوفيةِ، والردِّ عليهم منهجيًّا وعلميًّا، ففيهما أعابَ على ‏الصوفيةِ (تركَهم للعلمِ، وتنفيرَ الناسِ منه، واقتصارَ بعضِهم على القليلِ منه بدعوى الاكتفاءِ بعلمِ ‏الباطنِ، ولا حاجةَ للوسائط، وإنما هو: قَلْبٌ وربٌّ).‏

لذلكَ انحرفَ أكثرُهم في عباداتِهم، وقَلَّتْ علومُهم، وتكلموا في الشرعِ بآرائِهم الفاسدةِ، ‏فإذا أسندوا فإلى حديثٍ ضعيفٍ أوْ موضوعٍ، أوْ يكونُ فهمُهم منه رديئًا؛ وإذا خاضوا في التفسيرِ ‏كانَ غالبُ كلامِهم خطأً وهذيانًا، ولجهلِهم بالشرعِ وابتداعِهم بالرأي ابتكروا مذهبًا زَيَّنَهُ لهم ‏هواهُم، ثُمَّ تطلبوا له الدليلَ مِنَ الشرعِ، فاستدلوا بآياتٍ لم يفهموها، وبأحاديثَ لها أسبابٌ ‏وجمهورُها لا يثبتُ [2].

ويُفَسِّرُ ابنُ الجوزي سببَ نشأةِ الصوفيةِ وانحرافِهم عَنْ مفهومِ الزهدِ الصحيحِ، فيقولُ ابنُ الجوزي: (الصوفيةُ مِنْ جملةِ الزُّهَّادِ، وقدْ ذكرْنَا تلبيسَ إبليس على الزهادِ، إلَّا أَنَّ الصوفيةَ انفردوا عنْ الزهادِ بصفاتٍ وأحوال، وتوسموا بسماتٍ، فاحتجْنَا إلى إفرادِهم بالذكرِ، والتصوفُ كانَ ابتداؤُها الزهدَ الكلي، ثُمَّ تَرَخَّصَ المنتسبون إليها بالسماعِ والرقصِ، فمالَ إليهم طلابُ الآخرةِ مِنَ العوامِّ لِمَا يُظهرونَه مِنَ التزهدِ، ومالَ إليهم طلابُ الدنيا لِمَا يرون عندهم مِنَ الراحةِ وَاللعبِ ..)[3].

ويضعُ ابنُ الجوزي الحدَّ الفاصلَ بينَ الزهدِ المشروعِ والمستحبِّ، والتصوفِ المذمومِ والمُسْتَنْكَرِ؛ فيقولُ: (فالزهادُ همْ الذين تعلقوا بالزهدِ والتعبدِ، وتخلُّوا عَنْ الدنيا وانقطعوا إلى العبادةِ، وأما الصوفيةُ فقدْ زادوا على ذلكَ أمورًا مُحْدَثَةً تفرَّدوا بها؛ مثل: المكاشفاتِ والذوقِ والوجدِ والسماعِ والمحاضرةِ والشطحِ، فابتدعوا بذلكَ أمورًا جديدةً في دينِ اللهِ، ضلُّوا بسببِها وأضلُّوا، فذمَّهُم الأئمةُ الأعلامُ، وسنذكرُ شيئًا منْ أقوالِهم فيهم).

ويضيفُ: (فالتصوفُ مذهبٌ معروفٌ، يزيدُ على الزهدِ، ويدلُّ على الفرقِ بينهما أنَّ الزهدَ لم يذمهُ أحدٌ، وَقدْ ذمُّوا التصوفَ على ما سيأتي ذكرُه، وصنفَ لهم عبدُ الكريم بن هوازن القشيري كتابَ الرسالةِ، فذكرَ فيها العجائبَ مِنَ الكلامِ في الفناءِ والبقاءِ والقبضِ والبسطِ، والوقتِ والحالِ، والوجدِ والتجلي، والمحاضرةِ والمكاشفةِ، واللوائح والطوالع ... إلى غيرِ ذلكَ مِنَ التخليطِ الذي ليسَ بشيءٍ، وتفسيرُه أعجب مِنْهُ ...) [4].

وعنْ موقفِ الصوفيةِ مِنَ العقلِ وَالنقلِ واعتزازِهم بمذهبِهم نَقَلَ ابنُ الجوزي عَنْ الصوفي عبدِ الكريمِ القشيري (ت 465 هـ/1072م) قولَه: (حِجَجُ الصوفيةِ أظهرُ مِنْ حِجَجِ كُلِّ أحدٍ، وقواعدُ مذهبِهم أقوى مِنْ قواعد كُلِّ مذهبٍ؛ لأنَّ الناسَ إمَّا أصحابُ نَقْلٍ وَأَثَرٍ، وإما أربابُ عَقْلٍ وَفِكْرٍ، وشيوخُ هذه الطائفةِ ارتقوا عَنْ هذه الجملةِ، والذي للناسِ غيبٌ فَلَهُمْ ظُهورٌ، فهمْ أهلُ الوصالِ، والناسُ أهلُ الاستدلالِ).

ثُمَّ عَقَّبَ عليه ابنُ الجوزي بقولِه: (مَنْ لَهُ أدنى فَهْمٍ يعرفُ أَنَّ هذا الكلامَ تخليطٌ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ عنْ النقلِ والعقلِ فليسَ بمعدودٍ في الناسِ، وليسَ أحدٌ مِنَ الخَلْقِ إلَّا وهو مُسْتَدِلٌّ، وَذِكْرُ الوصالِ حديثٌ فارغٌ، فنسألُ اللهَ العصمةَ مِنْ تخليطِ المريدين والأشياخِ.

ومَا قالَه القشيري خطيرٌ جدًّا، ينتهي بمنْ يأخذُ به إلى إبعادِ الشرعِ، وتعطيلِ العقلِ، ليعبد اللهَ - بَعْدَ ذلكَ - على هواه، فلا يُفَرِّقُ بينَ الحلالِ والحرامِ، ولا بينَ ما يجب للهِ ومَا لا يجبُ له، فيضل وَيُضِل، وَيَصْدُقُ عليه قولُه تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدى مِنَ اللهِ} [القصص:50]) [5].

أمَّا عَنْ تَكَلُّمِ مشايخِهم في تفاسيرِهم للقرآنِ الكريمِ، والقولِ فيه بغيرِ علمٍ، وقولِهم خلافَ أقوالِ المفسرين الثقاتِ العلماءِ، فأعابَ عليهم ذلكَ، وَذَكَرَ أَنَّ الصوفيَّ أبا عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ/1021م) صنَّفَ تفسيرًا [6] جمعَ فيه أقوالًا لهم، أكثرها هذيانٌ.

ومنها أنَّ الصوفيَّ أبا القاسم بن محمد الجنيد البغدادي (ت 298 هـ/910م) فَسَّرَ قولَه تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} بمعنى: "لَا تَنْسَ العملَ بِهِ"، وفسَّرَ قولَه تعالى: {وَدَرَسُوا مَا فِيْهِ} بـ "تركوا العملَ بِهِ"، فيقولُ ابنُ الجوزي: (إنَّ هذين التفسيرين غيرُ صحيحين، ظاهرا الغلطِ، فقولُه في الآيةِ الأولى هوَ خلافُ إجماعِ العلماءِ، إِذْ فَسَّرَهَا على أنَّ فيها نهيًّا، والصحيحُ إنما هو خَبَرٌ لا نَهْي، وتقديرُه: فما تنسى- أي فيها نهي - ولو كانَ نهيًا لجزمَ الفعلَ.

وأمَّا قولُه في الآيةِ الثانيةِ بأنَّ معناها: "تركوا العملَ بِهِ" فهوَ خطأٌ؛ لأنَّ معناها الدرس الذي هو التلاوةُ، مِنْ قولِه تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُون}، لَا مِنْ دروسِ الشيءِ الذي هوَ هلاكُه) [7]، ثُمَّ خَتَمَ ابنُ الجوزي تعقيباتِه على تفسيراتِهم بقولِه: (وإنما العجبُ مِنْ هؤلاء - وكانوا يتورعون مِنَ الكلمةِ واللقمةِ -، كيفَ انبسطوا في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ إلى ما هذا حَدُّهُ؟!) [8].

وَعَنْ مؤلفاتِ الصوفيةِ والصوفيين وما فيها مِنْ منكراتٍ شرعيةٍ ومخالفاتٍ جسيمةٍ، قالَ ابنُ الجوزي: أَنَّ كبارَ مؤلفي الصوفيةِ كالحارث بن أسد المحاسبي البغدادي (ت 243 هـ/857م)، وأبي نعيم أحمد الأصفهاني (ت430 هـ/1038م)، وأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ/1111م)، جمعوا في مصنفاتِهم الأكاذيبَ والعجائبَ، والاعتقاداتِ الباطلةَ، والكلامَ المرذولَ، وملؤُوها بالأحاديثَ غيرِ الصحيحةِ والدقائقَ القبيحةِ، وأمروا فيها بأشياء مخالفةٍ للشريعةِ، ولم يستندوا فيها على أصلٍ، وإنَّما هي واقعاتٌ تلقفَها بعضُهم عَنْ بعضٍ، ثُمَّ دونوها وسمُّوها علمَ الباطنِ [9].

أمَّا عَنْ سلوكياتِهم داخلَ الأربطةِ، فقالَ ابنُ الجوزي أنهم (أخلدوا فيها إلى البطالةِ، وأراحوا أنفسَهم مِنْ طَلَبِ الرزقِ وإعادةِ العلمِ، ولا صلاةَ نافلة وَلَا قيامَ ليلٍ، وإنما أكثرُ همِّهِم التظاهرُ بالمرقعاتِ وطلبُ الملذاتِ، وسماعُ الأغاني مِنَ المردان، والمبالغةُ في المأكولِ والمشروبِ) [10].

ثُمَّ قَارَنَهُمْ بمتقدميهم، فقالَ: (أنَّ أولئك قَدْ لَبَّسَ عليهم الشيطانُ بتقليلِ الطعامِ، وعدمِ شُرْبِ الماءِ الباردِ؛ وأما المتأخرون فَقَدْ لَبَّسَ عليهم بكثرةِ الأكلِ ورفاهيةِ العيشِ، واستراحَ هوَ مِنَ التعبِ واشتغلَ بالتعجبِ منهم[11].

وَعَنْ دعوةِ بعضِ مشايخ الصوفيةِ الأوائل إلى الجوعِ وتقليلِ الطعامِ، ومجاهدةِ النفسِ بتركِ مباحاتِها نَبَّهَ ابنُ الجوزي إلى أنَّ (اتباعَ الشرعِ ومَا كانَ عليه الصحابةُ أولى مِنَ اتباعِ هؤلاء، وأنَّ النفسَ مطيةٌ، على الإنسانِ أَنْ يرفقَ بها ليصلَ إلى مقصودِه، فيعطيها مَا يُصْلِحُهَا ويمنعُها ما يَضُرُّهَا، والجسمُ في حاجةٍ ماسةٍ إلى مُخْتَلَفِ أنواعِ الغذاءِ) [12].

ومَا قالَهُ ابنُ الجوزي في ذلكَ صحيٌّ، وَحَدَثَ بالفعلِ مَع عَدَدٍ منهم، فكمَا يتضررُ الجسمُ مِنْ كثرةِ الأكلِ، يتضررُ مِنْ قِلَّتِه، فرُوي أنَّ الصوفي أبا محمد بن شكر اليونيني البعلي (ت 647 هـ/1249م) داومَ على خشونةِ العيشِ، وكثرةِ الجوعِ والمجاهدةِ؛ فحصلَ له يبسٌ أفسدَ مزاجَه وأورثَهُ تخيلات، فتارةً يتخيلُ أَنَّ جماعةً تريدُ اغتيالَه، وتارةً يتوهمُ أنَّه اطلعَ على أماكن فيها كنوزٌ وَأموالٌ كثيرةٌ [13].

وعنْ تميزهم بلباسِ الفوطِ المرقعاتِ وتظاهرِهم بها، قالَ ابنُ الجوزي: أنَّه (أمرٌ مكروهٌ وليسَ مِنَ الشريعةِ لعدةِ وجوهٍ؛ منها: أنهم لبسوها منْ غيرِ فقرٍ، ولمْ يلبسْ السلفُ الثيابَ المرقعاتِ إلَّا ضرورةً، وأنهم ادعوا الفقرَ، وقدْ أُمِرْنَا بإظهارِ نِعَمِ اللهِ علينا، وأنهم أظهروا الزهدَ - الذي قَدْ يورثُ فيهم الكبرَ - والمطلوبُ منهم سَتْرَهُ)[14].

وفي ذلكَ يُرْوَى أَنَّ عَالِمًا قالَ لجماعةٍ مِنْ أصحابِ المرقعاتِ: (إخواني، إِنْ كَانَ لباسُكُمْ موافقًا لسرائركم، لقدْ أحبَبْتُمْ أنْ يطلعَ الناسُ عليها، وإنْ كانتْ مخالفةً لسرائركم، فقدْ هلكتُمْ وَرَبِّ الكعبةِ) [15]، وفي حرصِهم على ارتداءِ الخِرَقِ المرقعاتِ أشارَ ابنُ الجوزي إلى أنهم (اختلقوا حديثًا في لبسِها، له إسنادٌ متصلٌ كُلُّهُ كَذِبٌ وَمُحَالٌ) [16].

وكمَا انتقدَ ابنُ الجوزي عوامَّ الصوفيةِ انتقدَ خواصَّ وأعلامَ الصوفيةِ الكبارَ؛ كأبي حامد الغزالي، ومحمد بن طاهر المقدسي، وعبدِ القادرِ الجيلاني، فقالَ عَنْ الغزالي أنَّه خالطَ الصوفيةَ، وأخذَ بنصائحهم، ونظرَ فِي كُتُبِ قدمائِهم، فاجتذبَه ذلك كليةً [17] وأبعدَه عَنْ قانونِ الفقهِ، ثُمَّ تَعَجَّبَ منه كيفَ نزلَ مِنْ رُتْبَةِ الفقيهِ إلى رُتْبَةِ الصوفي؟!

فَذَكَرَ أَنَّ الغزالي أخذَ بنصيحةِ أحدِ كبارِ الصوفيةِ، أَمَرَهُ فيها بتركِ المواظبةِ على تلاوةِ القرآنِ الكريمِ، وأنْ لا يلتفتَ قَلْبُهُ إلى أهلٍ وَوَلَدٍ، ولا إلى مالٍ وَعِلْمٍ، ويتفرغُ لقولِ: "الله، الله"، ويواظبُ عليه حتى يُفْتَحَ بما فُتِحَ على الأنبياءِ وَالأولياءِ [18]!!

ثُمَّ قَالَ عنه أنَّه باعَ الفقهَ بأرخصِ الأثمانِ واشترى التصوفَ، عندما ذكرَ أشياءَ تخالفُ الشريعةَ ولم يُنْكِرْهَا، بَلْ حَكَاهَا واستحسنَها كوسيلةٍ للتربيةِ والتعليمِ، منها أنَّه روى عَنْ بعضِ الشيوخِ عَن القيامِ في الليلِ، فَلَزَمَ نفسَهُ القيامَ على رأسِهِ طولَ الليلِ لتطاوعَه على القيامِ، وحكى أنَّ عابدًا كانَ شديدَ الحُبِّ للمالِ، فعالجَ نفسَه بِأَنْ بَاعَ كُلَّ مَا يملكُ، ورمى بالمالِ في البحرِ، ولمْ يُفَرِّقْهُ على الناسِ خوفًا على نفسِهِ مِنَ الرياءِ ورعونةِ النفسِ [19]!!

وقالَ عَنْ محمد بن طاهر المقدسي، أنَّه صَنَّفَ كتابًا في التصوفِ، يُضْحِكُ مَنْ يراهُ، وَيَعْجَبُ مِنَ استشهادِه على مذاهب الصوفيةِ بالأحاديثَ التي لا تناسبُ مَا يحتجُّ له مِنْ نُصْرَةِ الصوفيةِ [20].

وروى أيضًا عنه أنَّه كانَ يقولُ بمذهبِ الإباحيةِ في النظرِ إلى المردانِ، وله قصيدةٌ فيها التحللُ مِنَ الشريعةِ ومدحُ النصارى [21].

وحُكي عنه أنَّه قالَ: مِنْ سننِ الصوفيةِ التي ينفردون بها وينتسبون إليها صلاةُ ركعتين بعدَ ارتداءِ الخرقةِ والتوبةِ، واحتجَّ على ذلكَ بحديثِ الصحابي ثمامة بن آثال، فإنَّه عندما أسلمَ أَمَرَهُ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم – بالاغتسالِ، (ثُمَّ عَقَّبَ عليه بقولِه: إنَّ مَا ذهبَ إليه ابنُ طاهر هوَ مِنْ أقبحِ الجهلِ؛ لأنَّ ثمامةَ كانَ كافرًا فأسلمَ، فوجبَ عليه الغسلُ؛ وليسَ في الخبرِ صلاةُ ركعتين فيُقاسُ عليها، ولا قَالَ بها العلماءُ، فهذا ابتداعٌ لا سنة، وَمِنْ أقبحِ الأشياء قولُه أَنَّ الصوفيةَ ينفردون بسننٍ، فهيَ وإنْ كانتْ مِنَ الشرعِ فالمسلمون كُلُّهم مطالبون بها، وإنْ لَمْ تَكُنْ منه فهم الذين اخترعوها) [22].

أمَّا عبدُ القادرِ الجيلاني فقدْ تَرْجَمَ له ابنُ الجوزي في كتابيه: مناقب الإمام أحمد، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، فَلَمْ يمدحْهُ وَلم يقدحْ فيه، ولم يترحمْ عليه، وسمَّاه: عبد القادر، دونَ عبارةٍ أخرى تدلُّ على مكانتِه؛ كالشيخ، والفقيه، والعالم، وجاءتْ ترجمتُه في ثمانيةِ أسطر وكلماتٍ) [23].

وهكذا كَرَّسَ ابنُ الجوزي كثيرًا مِنْ ثنايا كتابيه "التلبيس" و"صيد الخاطر" لبيانِ خطرِ الصوفيةِ وضررِهم، وذكرِ أخبارِهم وخزعبلاتِهم.

وأنكرَ عليه بعضُ المتأخرين مِنَ الباحثين [24] انشغالَه الكبيرَ بالصوفيةِ، إلَّا أنَّه لم يتجاوزْ في ذلكَ، حيثُ أَنَّ خطرَهم كانَ ولا يزال كبيرًا، ولا يزال يفتتنُ بهم الآلافُ مِنَ المسلمين سنويًّا، ولا تزالُ الممارساتُ الصوفيةُ البعيدةُ عَنْ الدينِ تتكررُ فِي كُلِّ مكانٍ في عالمنا الإسلامي، ويحتاجُ الصوفيةُ في كُلِّ عصرٍ كتابًا ومؤلفين وَباحثين أمثالَ ابنِ الجوزي - رَحِمَهُ اللهُ - لبيانِ مواقفهم وعقائدِهم للنَّاسِ.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البداية والنهاية، ابن كثير، ج 16، في أحداث سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

[2] انظر: تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(359)، وصيد الخاطر، له، ص(339).

[3] المصدر السابق، (1/145).

[4] المصدر السابق، (1/ 165).

[5] المصدر السابق، ص(246).

[6] سماه "حقائق التفسير"، قال عنه الذهبي: (أتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية)، ونُقِلَ عن الخطيب البغدادي، أنَّ عبد الرحمن السلمي غير ثقة، كان يضع الأحاديث للصوفية، انظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي، (3/1046).

[7] تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(370).

[8] المصدر السابق، ص(374).

[9] المصدر السابق، ص(186) وما بعدها، وصيد الخاطر، له، ص(470).

[10] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(338، 411).

[11] تلبيس إبليس، ابن الجوزي، (232).

[12] المصدر السابق، ص(172، 173، 240).

[13] ذيل مرآة الزمان، اليونيني، (3/135).

[14] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(338)، وتلبيس إبليس، له، ص(214).

[15] تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(215).

[16] المصدر السابق، ص(216).

[17] انتقل الغزالي إلى التصوف في سنة 486 هـ/1093م، انظر: العواصم من القواصم، أبو بكر بن العربي، (2/30).

[18] صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(344).

[19] تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(394).

[20] المنتظم، ابن الجوزي، (9/178).

[21] تاريخ الإسلام، الذهبي، (501-520هـ)، ص(174).

[22] تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(198).

[23] المصدر السابق، (10/219)، ومناقب الإمام أحمد، ص(531).

[24] منهم الباحث الأستاذ زكي مبارك.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
ابنُ الجوزي وَكشفُ عوراتِ الصوفيةِ,doc doc
ابنُ الجوزي وَكشفُ عوراتِ الصوفيةِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى