المعرفة الصوفية

المعرفة الصوفية





          الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد.. أكد الصوفية على أن المريد الذي يلتزم بممارسات الطريق الصوفي يصل إلى مرتبة المعرفة الصوفية في تعامله مع الله تعالى، فيصبح من العارفين به، ولهم في ذلك روايات كثيرة عن شيوخهم في مدح العارفين ومعرتفهم، ولهم من جهة أخرى أحاديث نبوية أيدوا بهما قولهم بالمعرفة الصوفية كعادتهم في التستر بالإسلام والتظاهر به، والمعرفة الصوفية عندهم تعني العلم بالتصوف والتحقق به وبلوغ أكبر غاياته، التي هي أسرار التصوف الذي أخفوه عن الناس، وسينكشف لنا تدريجا فيما يأتي من مباحث هذا الفصل.

          فمن ذلك أولا: إنهم اجتجوا بأحاديث نبوية أيدوا بها قولهم بالمعرفة الصوفية، وردت فيها عبارة: المعرفة، فمضمونها مفهوم المعرفة الصوفية واستدلوا بها انتصارا للتصوف.

          منها: حديث أورده أبو طالب المكي وعلق عليه، مفاده: وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني من غرائب العلم، فقال:" هل عرفت الرب" فأخبر أن غرائب العلوم في المعرفة"[1].

          والحديث الثاني:" قال الكلاباذي:" روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله"[2].

          والحديث الثالث: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أنس بن سلم الخولاني، حدثنا محمد بن رجاء السجستاني حدثنا منبه بن عثمان، حدثني عمر بن محمد بن زيد، عن سالم بن عبد الله عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن لكل شيء معدنا، ومعدن التقوى قلوب العارفين"[3].

          والحديث الرابع: أورده أبو نعيم الأصبهاني بقوله:" ومنها تقديم العارفين على مقامات المريدين: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد المنقري، حدثنا لاحاث بن منصور الوراق، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا جمع الله ا,لين والآخرين ينادي مناد في صعيد واحد من بطنان العرش: أين أهل المعرفة بالله؟ أين المحسنون؟" قال:" فيقوم عنق من الناس حتى يقفوا بين يدي الله فيقول، وهو أعلم بذلك: ما أنتم؟ فيقولون: نحن أهل المعرفة الذين عرفتنا إياك وجعلتنا أهلا لذلك، فيقول: صدقتم، ثم يقول: للآخرين: ما أنتم؟ قالوا: نحن المحسنون، قال: صدقتم، قلت لنبي صلى الله عليه وسلم ما على المحسنين من سبيل، ما عليكم من سبيل ، وادخلوا الجنة برحمتي" ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لقد نجاهم الله من أهوال بوائق القيامة" هذا طريق مرتضى لولا الحار بن منصور وكثرة وهمه"[4].

          والحديث الخامس: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا عباد يعني ابن كثير عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" فسم الله العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه فلا عقل له: حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمره"[5].

          والحديث السادس: قال القشيري:" أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العدل، قال: حدثنا محمد بن القاسم العتكي، قال: حدثني محمد بن أشرس، قال: حدثنا سليمان بن عيسى الشجري عن عباد بن كثير، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن دعامة البيت أساسه، ودعامة الدين المعرفة الله تعالى، واليقين والعقل القامع فقلت: يأبي أنت وأمي ما العقل القامع؟ قال الكف عن معاصي الله، والحرص على طاعة الله"[6].

          والحديث السابع: قال عبد القادر الجيلاني:" وقال صلى الله عليه وسلم:" أنا أعرفكم بالله وأشدكم منه خوفا"[7].

          والحديث الثامن: قال أبو عبد الرحمن السلي:" وقال أبو الدرداء: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعرفة، فقال: سألت جبريل عليه السلام، قال: سألت الله عز وجل عن المعرفة فقال عز وجل: سر من أسراري لا أودعه إلا في سر يصلح لمعرفتي"[8].

          والحديث التاسع: قال أبو نعيم الأصبهاني:" حدثنا عبد الرحمن بن العباس، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير بن معاوية، ثنا خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم، قال: ما فعلت في رأس العلم فتطلب الغرائب؟ قال: وما رأس العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟، قال: نعم: قال: فما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، قال: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: ما أعددت له؟، قال: ما شاء الله، قال: انطلق فاحكم هاهنا ثم تعال أعلمك من غرائب العلم"[9].

          وثانيا: إن من الأقوال التي احتج بها الصوفية على قولهم بالمعرفة الصوفية، قول نسبوه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال أبو عبد الرحمن السلمي:" وقال أبو بكر الصديق: سبحان من لم يجعل لخلقه طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته"[10].

          وقال آخر نسبوه إلى الصحابي عبد الله بن عباس مفاده أنه فسر قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، قال ابن عباس:"أي ليعرفون"[11]، وعلق أبو عبد الرحمن السلمي على ذلك بقوله:" فأما المعرفة فأول فرض افترضه الله على عباده".

          وقول آخر عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل:" بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟" فقال:" ببطن جائع، وبدن عار"[12].

          وقال القشيري:" سممعت محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول: سمعت الفراغاني يقول: سمعت الجنيد وقد سئل: من العارف؟ قال: من نطق عن سرك وأنت ساكت"[13].

          وقال أبو نعيم الأصبهاني:" أخبرنا محمد بن الحسن، قال سمعت محمد بن علي النهاوندي يقول:" سمعت موسى بن محمد يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: أهل المعرفة وحش الله في الأرض لا يأنسون إلى أحد"[14].

          وقال أبو سليمان الداراني:" أهل المعرفة دعاؤهم غير دعاء الناس، وهمتهم غير همة الناس"[15].

          وبين عبد الكريم القشيري معنى المعرفة وغايتها عند الصوفية بقوله:" عند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة، وأفاقه، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله في جميع أحواله، فإذا صار من الخلق أجنبيا ومن آفات نفسه بريا، ومن المساكنات والملاحظات نفيا، ودام في السر مع الله تعالى مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عند ذلك عارفا وتسمى حالته معرفة، وبالجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه"[16].

          وسئل عبد الرحمن الفارسي عن كمال المعرفة فقال:" إذا اجتمعت المفترقات، واستوت الأحوال والأماكن، وسقطة رؤية التمييز"[17].

          وآخرهم ما ذكره الصوفي ابن عجيبه في المقارنة بين العالم والعارف، فقال:" وقال بعضهم في تفصيل العارف على العالم: إن العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول:يعني: أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين، كان قدمه فوق ما وصف، لأنه يسلكه دوما ثم يصفه، والعالم إنما يصفه بالنعت، وأيضا: العالم يدلك على العمل، والعارف يخرجك عن شهود العمل، العالم يحملك حمل التكاليف، والعارف يروحك بشهود التعريف، العالم يدلك على علم الرسوم، والعارف يعرفك بذات الحي القيوم، العالم يدلك على الأسباب، والعارف يدلك على مسبب الأسباب، العالم يدلك على شهود الوسائطن والعارف يدلك على محرك الوسائط، العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار، والعارف يحذرك من الوقوف مع الأنوار ويزج بك في حضرة الأسرار، والعلم يحذرك من الشرك الجلي، والعارف يخلصك من الشرك الخفي، والعالم يدلك على العمل، والعارف يدلك على العمل بالله، والعالم يعرفك باحكام الله، والعرف يعرفك بالله، والعالم من أهل البرهان، والعارف من أهل العيان، والعالم من أهل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، والعارف من أهل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والعالم يدلك على العمل خوفا وطمعا، والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا"[18].



[1] أبو طالب المكي: قوت القلوب، (1/172).

[2] الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف (100).

[3] أبو نعيم الأصبهاني: الأربعون على مذهب المتحققين من الصوفية (86).

[4] المرجع السابق، (88).

[5] المرجع السابق (86).

[6] القشيري: الرسالة القشيرية، (2/477).

[7] عبد القادر الجيلاني: فتوح الغيب، المقالة السابعة والعشرون.

[8]أبو عبد الرحمن السلمي: المقدمة في التصوف (36).

[9] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، (1/24).

[10] أبو عبد الرحمن السلمي: المقدمة في التصوف وحقيقته، (35).

[11] المرجع السابق.

[12] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية(73).

[13] القشيري: الرسالة القشيرية، (1/78).

[14] أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء (1/60).

[15] المرجع السابق (10/60).

[16] الفشيري: الرسالة القشيرية (141).

[17] السراد الطوسي: اللمع (62).

[18] ابن عجيبة: البحر المديد (7/523)، وأكملت المقارنة من كتاب: جواهر التصوف، ليحيى بن معاذ، (221).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المعرفة الصوفية.doc doc
المعرفة الصوفية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى