درجات الخوف من الله

درجات الخوف من الله



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ الخوف من الله تعالى وسيلة من أهم الوسائل التي تدفع المسلم إلى الالتزام بالطاعات وترك المنهيات، فعلى المسلم أن يمتلئ قلبُه مخافةً وخشيةً لله تعالى في جميع مناحي حياته العلمية والعملية حتى ينال السعادة في الدارين، وهنا قد يظن بعضُ الناس أن الخوف كلما قوي كان أفضل، وهذا خطأ، فالخوف إذا زادَ عن حدِّه انقلب إلى ضده، وأَضَرَّ بصاحبه.
يقول ابن رجب: (القدرُ الواجبُ من الخوفِ ما حَمَلَ على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإذا زاد على ذلك صارَ باعثًا للنفوس على التشميرِ في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضولِ المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايدَ على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل؛ لم يكن ذلك محمودًا)([1]).
فالخوف له درجات، فهو يتأرجح بين درجات ثلاث: قصور، وإفراط، واعتدال.
1- الخوف القاصر:
إن الخوف لا يتحقق إلا بانتظار مكروه، وليس الخائف من يبكي ثم يمسح عينيه، بل يخاف أن يُعَاقَب عليه، والقدر الواجب من الخوف ما حملَ على أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وما لم يُؤَثِّر في الجوارح فهو حديث نفس، ولا يستحق أن يُسمى خوفًا.
يقول الغزالي: (الخوفُ القاصرُ هو الذي يجري مجرى رقة النساء، يخطرُ بالبالِ عند سماعِ آيةٍ من القرآن، فيورث البكاء، وتفيضُ الدموع، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل، فإذا غابَ السببُ عن الحسِّ رجع القلبُ إلى الغفلة، فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع)([2]).
ويذكر البياتي (بأن الخوفَ هو الذي يكفُّ الجوارحَ عن المعاصي ويُقَيِّدُها بالطاعات، وما لم يؤثر بالجوارح فهو حديثُ نفسٍ وحركةُ خاطرٍ، لا يستحق أن يُسمى خوف)([3]).
فالخوف القاصر هو خوفٌ وقتي، يرتبط بوجود السبب، فإذا نظرت إلى بعضِ النظريات التربوية تجد أن الاستجابة تصدر تبعًا لوجود المثير، ويمكن الاستفادة من الخوف القاصر بتقديم الحوافز للطلاب في الاختبارات، بحيث تكون مستمرةً ولا تتوقف، مما يُؤَثِّرُ على نشاطهم واستمراريتهم في المثابرة، ليكون الخوف من الامتحانات حافزًا للنجاح بتفوق.
فهنا يجبُ على المؤسسات التربوية وضع المنهج الصحيح في توجيه ذلك الخوف حتى لا يكون قاصرًا، أي إذا وُجد السبب خافَ، وإن لم يُوجدْ السبب امتنع عن الخوف، وعلى المؤسسات التربوية أن يكون بناءها متكاملًا بحيث تبدأ من الأسرة، ثم المدرسة، ثم المسجد، وهكذا حتى يتكامل البناء وتنشئ - بإذن الله تعالى - جيلًا صالحًا في نفسه ومجتمعه.
2- الخوف المفرط:
إن الخوفَ ممدوحٌ إلى ما حدٍّ ما، فإن جاوزه كان مذمومًا، كونه يؤي إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، ولا ريب أن الخوف المفرط أو المجاوز للحدِّ يمنعُ من العمل ويكون محض فساد، وهو غير مُجْدٍ ونافع، بل يكون سببًا للأحزان والقعود عن الأعمال.
يقول الغزالي: (الخوفُ المفرط الذي يقوى ويجاوزُ حَدَّ الاعتدال، حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، وهو مذمومٌ أيضًا، لأنه يمنعُ من العملِ، وقد يخرج الخوف أيضًا إلى المرضِ والضعفِ، وإلى الوَلَهِ والدهشةِ وزوال العقل، وقد يخرج إلى الموتِ، وكلُّ ذلك مذمومٌ، وإنما ذَكَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أسبابَ الرجاء وأَكْثَرَ منها، ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضي إلى القنوط)([4]).
فالخوف المفرط حالة مرضية لها أسبابها؛ كقسوة الوالدين في تربية الأبناء، والتصورات الخاطئة لدى الأطفال، واللوم المستمر للأبناء، والتعرض لفواجع كالحوادث أو موت الأحباء وغيرها، ويمكن من خلال التربية الإسلامية علاج مثل هذا النوع من الخوف بتجنب أسباب الخوف، والاستماع الجيد للأبناء، والاعتدال في تربيتهم، وإبعاد ما هو مخيف للطفل، حتى يألف الطفلُ المواقف بالتدرج للتخلص من الأوهام دون إكراه.
3- الخوف المعتدل:
الخوف المحمود هو الذي يرضاه اللهُ تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان معتدلًا بين الإفراط والتفريط، لأنه الخوف الذي يُسْعِدُ صاحبَه ويُنْيرُ حياتَه ويمهد أمامه الطريق بإزالة كل ما يعيق طريقَه إلى اللهِ من المعاصي والذنوب، يُعَرِّفُهُ المقدسي بقوله: (بأنه الخوف الذي يكونُ مُرَغِّبًا في المأمورات، ومُجَنِّبًا للمحظورات، ويظهر أثرُه على الجوارح بِكَفِّها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات، تلافيًا لِمَا فَرَّطَ واستعدادًا للمستقبل)([5]).
كما يمكن تعريفه بأنه: (الذي يحرقُ الشهوات المُحَرَّمَة، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهةً، كما يصير العسلُ مكروهًا عند من يشتهيه إذا عرفَ أن فيه سُمًّا، فتُحْرَقُ الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصلُ في القلبِ الخشوع والذلة والاستكانة، ويفارقه الكبرُ والحقدُ والحسدُ، بل يصير مستوعب الهمِّ بخوفه، والنظر في عاقبته، فلا يتفرغ لغيرِه ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات)([6]).
قال ابن رجب: (ولا ننكرُ أن خشيةَ اللهِ تعالى وهيبَتَه وعظمتَه في الصدورِ وإجلاله مقصودٌ إيضًا، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقربِ إلى اللهِ تعالى، بفعلِ ما يحبه وتركِ ما يكرهه، ومتى صار الخوفُ مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه فقد انعكسَ المقصودُ منه، ولكن إذا حصلَ ذلك عن غلبةٍ كان صاحبُه معذورًا)([7]).
وقال ابن القيم: (وهذا الخوفُ محمودٌ على كل حالٍ ومطلوب، والخوفُ يتعلقُ بالأفعال، والمحبةُ تتعلق بالذات والصفات، ولهذا تتضاعف محبةُ المؤمنين لديهم إذا دخلوا دارَ النعيمِ ولا يلحقهم فيها خوفٌ، ولهذا كانت المحبة ومقامها أرفع من منزلةِ الخوف ومقامه)([8]).

الهوامش:
([1]) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، ابن رجب، ص(28).
([2]) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ص(5/5).
([3]) المسلم في التوبة والترقي في مدارج الإيمان، منير البياتي، دار النفائس، الأردن، ص(2/4046).
([4]) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ص(5/5-6).
([5]) مختصر منهاج القاصدين، المقدسي، ص(303).
([6]) البحر الرائق في الزهد والرقائق، أحمد فريد، مكتبة الإيمان، الإسكندرية، ص(321).
([7]) التخويف من النار، ابن رجب، ص(29).
([8]) مدارج السالكين، ابن القيم، ص(514).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
درجات الخوف من الله pdf
درجات الخوف من الله pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى