الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فصاحب الحدث المستمر هل يلزمه الوضوء لكل صلاة؟ أم لا يلزمه؟ بل متى توضأ فله أن يصلي بوضوئه ما شاء من الصلوات، ما لم يحدث حدثا اختياريا، وقبل أن نبسط الكلام على الإجابة على هذا السؤال نبين أن أصحاب الأحداث المستمرة لهم ثلاثة أحوال لا رابع لها:
الحال الأولى: أن يكون الحدث مستمرا لا ينقطع.
الحال الثانية: أن ينقطع الحدث، لكن على وجه لا ينضبط في أوقات انقطاعه.
فهذان الحالان هما مادة البحث هنا، وحكمهما واحد، على ماتقدم ترجيحه وسياتي - إن شاء الله - التدليل عليه.
الحال الثالثة: أن ينقطع في أوقات منضبطة معلومة، ويبقى طاهرا تماما بعد انقطاعه، فصاحب هذا الحال يلزمه الانتظار حتى ينقطع حدثه، ثم الاستنجاء والتطهر، ولا إشكال في ذلك؛ ولأنه يمكنه الصلاة بطهارة صحيحة فأشبه الأصحاء، ما لم يخش خروج الوقت فيتوضأ وإن استمر حدثه.
تنبيه:
المراد بالحدث المستمر: كالمستحاضة، وهي التي جاء فيها الخبر، وقيس عليها صاحب سلس البول، والودي، واتصال خروج مذي، واستطلاق الريح وغائط، ونحو ذلك .. عافانا الله وكل مسلم ومسلمة.
وأصل المسألة ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا، إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» قال: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذلك الوقت»[1].
وأصل الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن والمسانيد، وقد أشار مسلم إلى حذفها عمدا، فقال بعد إخراجها: «وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره» [2] هذا تضعيف منه.
وقال النسائي بعد إخراجه من طريق حماد بن زيد عن هشام بن عروة ما نصه: «لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: «وتوضئي» غير حماد بن زيد. وقد روى غير واحد عن هشام ولم يذكر فيه «وتوضئي»[3].
وقال البيهقي: «رواه مسلم في الصحيح عن خلف بن هشام، عن حماد» دون قوله: «وتوضئي»، ثم قال مسلم: «وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره»، وهذا لأن هذه الزيادة غير محفوظة، إنما المحفوظ ما رواه أبو معاوية، وغيره، عن هشام بن عروة هذا الحديث، وفي آخره قال: قال هشام: «قال أبي»: «ثم توضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت [4] يعني موقوفة على عروة.
ولذا قال ابن رجب في شرح البخاري: "قلت: والصواب: أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة"[5].
وينظر أيضا هل هي موصولة بالإسناد السابق أم معلقة، وعلى التسليم برفعها ووصلها فهي شاذة
والصحيح في هذه المسألة: ما ذهب إليه مالك ومن وافقه من أن الوضوء لكل صلاة إنما هو مستحب، لا يجب في مثل هذه الحال؛ اكتفاء بوضوئه الأول/ لأن زيادة» وتوضئي لكل صلاة «غير محفوظة - كما تقدم - وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون، أكثرهم ومنهم الكبار لم يذكروها كمالك ووكيع ويحي القطان والليث وابن عيينة ومعمر .. في بضعة عشر كلهم رواه عن هشام دون ذكر الأمر بالوضوء، وإنما زادها من هم أقل من هؤلاء في التثبت، وفي العدد أيضا.
قال ابن عبد البر في الكافي: "وتتوضأ - يعني المستحاضة - لكل صلاة، وليس ذلك عليها عند مالك بواجب، ويستحسنه لها، وعند غيره من أهل المدينة هو: واجب عليها، ولو أفاقت المستحاضة من علتها وانقطع دم الاستحاضة عنها لم يكن عليها غسل.
ومن أهل العلم من يستحب لها الغسل وقد روي ذلك عن مالك.
والمستحاضة طاهر، تصلي، وتصوم، وتطوف بالبيت، وتقرأ في المصحف، ويجامعها زوجها - إن شاء - مادامت تصلي في استحاضتها.
وحكم سلس البول والمذي - إذا كان دائما لا ينقطع - كحكم المستحاضة يستحب لهما مالك الوضوء لكل صلاة وغيرة يوجبه [6].
وقال في التمهيد: وأما مالك فإنه لا يوجب على المستحاضة، ولا على صاحب السلس وضوءا؛ لأنه لا يرفع به حدثا، وقد قال عكرمة وأيوب وغيرهما سواء دم الاستحاضة أو دم جرح، لا يوجب شيء من ذلك وضوءا.
وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «ليس على المستحاضة إلا أن تغسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة»، قال مالك: «والأمر عندنا على حديث هشام بن عروة عن أبيه، وهو أحب ما سمعت إلي».
والوضوء عليها عنده استحباب - على ما ذكرنا عنه - لأنه لا يرفع الحدث الدائم، فوجه الأمر به الاستحباب. والله أعلم.
وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها -: «فإذا ذهب قدر الحيضة فاغتسلي وصلي «ولم يذكر وضوءا ولو كان الوضوء واجبا عليها لما سكت عن أن يأمرها به.
وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة والله الموفق للصواب.
وأما الأحاديث المرفوعة في إيجاب الغسل لكل صلاة، وفي الجمع بين الصلاتين بغسل واحد، والوضوء لكل صلاة على المستحاضة، فكلها مضطربة لا تجب بمثلها حجة[7].
وقال في الثمر الداني شرح رسالة أبي زيد القيرواني: "وأما دم الاستحاضة فيجب منه الوضوء، ويستحب لها ولسلس البول أن يتوضآ لكل صلاة، قال في الشرح: «ولسلس البول الخ» هو بكسر اللام التي بين السينين اسم فاعل صفة للرجل، أي: يستحب لصاحب السلس أن يتوضأ لكل صلاة: وأن يكون وضوءه متصلا بالصلاة: ولا خصوصية لسلس البول بالحكم: بل الحكم عام لكل ذي سلس: بولاً أو ريحاً أو منياً، فالجميع سواء في عدم النقض بالذي خرج منهم"[8].
الهوامش:
[1] صحيح مسلم(333).
[2] صحيح مسلم(333).
[3] سنن النسائي(217).
[4] سنن البيهقي(565).
[5] فح الباري لابن رجب(2/72).
[6] الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر(1/189).
[7] التمهيد(16/98).
[8] الثمر الداني شرح رسالة ابي زيد القيرواني(1/27).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.