الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فلا ينبغي للعبد أن يدع صلاة الليل والوتر، وهو سنة مؤكدة، وهو آكد من الرواتب، ومن سنة الصبح - على فضلها - عند كثير من العلماء.
قال في المغني: "واختلف أصحابنا في الوتر وركعتي الفجر، فقال القاضي: ركعتا الفجر آكد من الوتر؛ لاختصاصهما بعدد لا يزيد ولا ينقص، فأشبها المكتوبة.
وقال غيره: الوتر آكد. وهو أصح؛ لأنه مختلف في وجوبه، وفيه من الأخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر، لكن ركعتا الفجر تليه في التأكيد، والله أعلم [1].
وفي مسائل صالح بن أحمد لأبيه: "وسألته عن الرجل يترك الوتر متعمدا ما عليه في ذلك، قال أبي: هذا رجل سوء، هو سنة، سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه"[2].
الحرص على الوتر في آخر الليل أفضل:
والأفضل فعله في آخر الليل؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى وتره إلى السحر»، متفق عليه.
وفي حديث جابر - رضي الله عنه - - عند مسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم آخر فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل». وفي رواية له: «محضورة».
وهذا صريح في التفضيل، فإذا كان له تهجد جعل الوتر بعده لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وقال "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" رواه مسلم[3].
فأما إن خاف أن لا يقوم آخر الليل استحب أن يوتر من أوله؛ لما ذكرنا من الحديث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى به أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء، وكلها أحاديث صحاح.
وقال ابن رجب في شرح البخاري: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «أيَّ حِينٍ توتر؟» قال: أول الليل بعد العتمة، قال: «فأنت يا عمر؟» قال: آخر الليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة». وخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
وإسناده ثقات، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ: عن ابن رباح، مرسلا. وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما، بأسانيد لينة، ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسلا، وهو من أجود المراسيل، كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري.
ورواه بعضهم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، والصواب إرساله، قاله الدارقطني.
ورواه مسعر، عن سعد بن إبراهيم، واختلف عنه: فقيل: عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، وقيل: عنه، عن سعد، عن أبي سلمة مرسلا، وقيل: عنه، عن سعد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة. والظاهر: أنه غير ثابت.
وخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وفي حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما أنت يا أبا بكر، كما قال القائل: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل، وأما أنت يا عمر، فتأخذ - أو تعمل - عمل الأقوياء».
ورواه وكيعـ في كتابه - عن معسر، عن ابن المسيب مرسلا، وزاد فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: «أنت مثل الذي قال: أحرزت نهبي وأبتغي النوافل».
وهذه الرواية أصح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب مرسلا، بهذه الزيادة أيضا" [4]
وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأه، بغير خلاف.
قيام داود عليه السلام
وأخرج صاحبا الصحيح من طريق سفيان، قال: حدثنا عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس، أخبره: أن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما»[5].
وبوب عليه البخاري: "من نام عند السحر"، ثم أردفه بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما» تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -[6] .
قال العيني: "قال المهلب كان داود عليه الصلاة والسلام يجم نفس بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الرب: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صار ذلك أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على النفوس التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله ويوالي إحسانه"[7].
وقال العيني أيضا ما نصه: "قوله: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما» يعني: ما أتى عليه السحر عندي إلا وهو نائم، فعلى هذا كانت صلاته بالليل،وفعله فيه إلى السحر، ويقال: هذا النوم هو النوم الذي كان داود، عليه الصلاة والسلام، ينام، وهو أنه كان ينام أول الليلة، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله عز وجل: هل من سائل؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في الليل، وهذا هو النوم عند السحر، على ما بوب له البخاري، وقال ابن التين: قولها: «إلا نائما» أي: مضطجعا على جنبه؛ لأنها قالت في حديث آخر: «فإن كنت يقظانة حدثني وإلا اضطجع حتى يأتيه المنادي للصلاة».
فيحصل بالضجعة الراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول صلاة الصبح؛ فلهذا كان ينام عند السحر"[8].
قال أبو محمد: كان داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقسم الليل أقساما، فينام ثلاثة أسداس من أول الليل، ويقوم السدس الرابع، والخامس، وينام السدس الأخير.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين حديث عائشة - رضي الله عنها -: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائما»، وحديثها: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى وتره إلى السحر» وكذا حديث جابر - رضي الله عنه -: «أن صلاة آخر الليل مشهودة»؟
والجواب: أن آخر صلاته ووتره عليه الصلاة والسلام يقعان في آخر الليل، في أول السحر، ثم بعد ذلك يرتفق باضطجاع، وربما نام يسيراً، بأبي هو وأمي، ولا يصل صلاة الليل بصلاة الصبح. وهذا أحسن ما قيل. والله أعلم.
[1] المغني(2/119).
[2] مسائل صالح بن أحمد (1/266).
[3] صحيح مسلم(755).
[4] فتح الباري لابن رجب(9/143).
[5] البخاري (1131)، ومسلم (1159).
[6] صحيح البخاري(1133).
[7] عمدة القاري لالعيني(7/181).
[8] عمدة القاري لالعيني (7/183).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.