الهدي النبوي بعد أداء صلاة العشاء

الهدي النبوي بعد أداء صلاة العشاء






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فيدخل وقت صلاة الليل والوتر بعد أداء صلاة العشاء، وعلم من هذا أن لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم فله أن يوتر - على الراجح -؛ لأن الوتر يدخل بفعل العشاء، لا بدخول وقتها الخاص.
ويراد بالوتر آخر الصلاة - وهو ضد الشفع - ويراد به جملة ما صلى من الليل وإن كان شفعاً إذا ختمه بوتر.
ولذا قال الغزالي في الإحياء ما نصه: "لأن شرط الوتر أن يكون في نفسه وتراً، وأن يكون موتراً لغيره مما سبق قبله" [1]
وقال ابن رجب في شرح البخاري: "إذ الواحدة الأصل في الإيتار، وبها يصير ما قبلها وتراً"[2].
وقال أيضا: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، يدل على أن هذه الركعة الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر.[3]
والأحاديث جاءت ألفاظها بهذا وبهذا.
 
كراهة التحدث بعد العشاء إلا ما كان في خير:
ويكره بعد صلاة العشاء التحدث في غير حاجة أو السمر في غير مصلحة.
قال النووي في شرح مسلم على شرح حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - في النهي عن الحديث بعد العشاء قال ما نصه: "وسبب كراهة الحديث بعدها أنه:
يؤدي إلى السهر، ويخاف منه: غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار، أو الأفضل.
ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا.
قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك:
كمدارسة العلم.
وحكايات الصالحين.
ومحادثة الضيف، والعروس؛ للتأنيس.
ومحادثة الرجل أهله، وأولاده؛ للملاطفة، والحاجة.
ومحادثة المسافرين، بحفظ متاعهم، أو أنفسهم.
والحديث في الإصلاح بين الناس، والشفاعة إليهم في خير.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك ... فكل هذا لا كراهة فيه.
وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه، والباقي في معناه، وقد تقدم كثير منها في هذه الأبواب، والباقي مشهور.
ثم كراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء لا بعد دخول وقتها.
واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير، كما ذكرناه" [4]
وقال البخاري في صحيحه: "باب السمر مع الأهل والضيف"، وأخرج من طريق معتمر بن سليمان، قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أن أصحاب الصفة، كانوا أناساً فقراء وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس، أو سادس» وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بثلاثة، فانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي - فلا أدري قال: وامرأتي وخادم - بيننا وبين بيت أبي بكر، وإن أبا بكر - رضي الله عنه - تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لبث حيث صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى تعشى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: وما حبسك عن أضيافك - أو قالت: ضيفك - قال: أوما عشيتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا فأبوا، قال: فذهبت أنا فاختبأت، فقال يا غنثر فجدع وسب، وقال: كلوا لا هنيئاً، فقال: والله لا أطعمه أبداً، وايم الله، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها - قال: يعني حتى شبعوا - وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر - رضي الله عنه - فإذا هي كما هي أو أكثر منها، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: إنما كان ذلك من الشيطان - يعني يمينه - ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد، فمضى الأجل، ففرقنا اثنا عشر رجلا، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل، فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال[5]
قال ابن رجب في شرح البخاري على هذا الحديث ما نصه: "ومقصود البخاري من هذا الحديث: جواز السمر عند الأهل والضيف؛ فإن أبا بكر - رضي الله عنه - سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه. والظاهر أيضا أنه سمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي السمر عند الأهل: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء، ثم دخل بيته، فتحدث مع أهله ساعة.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها رأت قوما يسمرون، فقالت: انصرفوا إلى أهليكم، فإن لهم فيكم نصيبا.
وهذا يدل على أنها استحبت السمر عند الأهل؛ لما فيه من المؤانسة لهم، وهو من حسن العشرة.
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمر مع بعض الوفود الذين يفدون عليه المدينة، وهو من نوع السمر مع الضيف.
فخرج أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنت في وفد ثقيف، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا كل ليلة بعد العشاء، فيحدثنا قائما على رجليه، حتى يتراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش .. وذكر الحديث.
وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي برزة أصح منه، يعني: حديثه: كان يكره الحديث بعدها.
وروي الرخصة في السمر للمصلي والمسافر خاصة، خرجه الإمام أحمد من رواية خيثمة، عن رجل من قومه من قريش، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا سمر بعد الصلاة» يعني: العشاء الآخرة «إلا لمصل أو مسافر».
قال ابن المديني: في إسناده انقطاع؛ لأن الرجل الذي لم يسمه خيثمة لا أدري هو من أصحاب عبد الله، أو لا؟ وقد روى خيثمة عن غير واحد من أصحاب عبد الله، منهم: سويد بن غفلة، وأرجو أن يكون هذا الرجل منهم. وقال الأثرم: هو حديث غير قوي؛ لأن في إسناده رجلا لم يسم.
وقد أخذ به الإمام أحمد، فكره السمر في حديث الدنيا، ورخص فيه للمسافر.
وروي من وجه آخر بزيادة، من رواية ابن وهب، عن معاوية، عن أبي عبد الله الأنصاري، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر، أو عروس». خرجه سمويه الأصبهاني الحافظ: نا عبد الله بن الزبير: نا ابن وهب .. فذكره، وخرجه بقي بن مخلد في مسنده: ثنا ابن مقلاص: ثنا ابن وهب: أخبرني معاوية، عن أبي حمزة، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائما قبل العشاء، ولا لاغيا بعدها، أما ذاكرا فيغنم، أو نائما فيسلم».
قال معاوية: وحدثني أبو عبد الله الأنصاري، عن زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: السمر لثلاثة: لعروس، أو لمسافر، أو لمتهجد بالليل. وهذا موقوف على عائشة.
وأبو عبد الله وأبو حمزة، مجهولان.
وروى الحسين بن إسحاق التستري، عن أحمد، أنه سئل عن السمر بعد العشاء الآخر؟ قل: لا، إلا لمسافر أو مصل، فأما الفقه فأرجو أن لا يكون به بأس.
ونقل عبد الله بن أحمد، عن أبيه، أنه سئل عن الحديث الذي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النوم قبل العشاء، والحديث بعدها، والرجل يقعد مع عياله بعدما يصلي يتحدث ثم ينام: هل يحرج؟ قال: ينبغي أن يجتنب الحديث والسمر بعدها.
وهذا يدل على كراهة السمر مع الأهل أيضا.
وقال سفيان الثوري: كان يقال: لا سمر بعد العشاء، إلا لمصل، أو مسافر. قال: ولا بأس أن يكتب الشيء، أو يعمل بعد العشاء.
وهذا يدل على أن سهر الإنسان في عمل يعمله وحده، من غير مسامرة لغيره، أنه لا كراهة فيه، بخلاف المسامرة والمحادثة. والله سبحانه وتعالى أعلم"[6].
وقال في نيل الأوطار ما نصه: "قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء.
فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء.
ورخص بعضهم، إذا كان في معنى العلم، وما لا بد منه من الحوائج، وأكثر الحديث على الرخصة.
وهذا الحديث [7] يدل على عدم كراهة السمر بعد العشاء، إذا كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، وحديث أبي برزة وابن مسعود - رضي الله عنهما - وغيرهما على الكراهة.
وطريقة الجمع بينهما بأن توجه أحاديث المنع إلى الكلام المباح الذي ليس فيه فائدة تعود على صاحبه، وأحاديث الجواز إلى ما فيه فائدة تعود على المتكلم، أو يقال: دليل كراهة الكلام والسمر بعد العشاء عام مخصص بدليل جواز الكلام والسمر بعدها في الأمور العائدة إلى مصالح المسلمين"[8].
وقال الشيخ محمد العثيمين في لقاء الباب المفتوح ما نصه: من الغلط أن الإنسان يبقى ساهراً في الليل بتهجد أو بمراجعة علم، ثم ينام عن صلاة الفجر، هذا غلط عظيم، وأما ما استدلوا به أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاتته صلاة الفجر فهذا كان في سفر، وكانوا قد نزلوا في آخر الليل وقالوا: من يرقب لنا الفجر، فاعتمد بلال - رضي الله عنه - على ذلك، ولكنه نام وأخذه الذي أخذه، وهذا ليس كالإنسان الذي يجعل هذا عادة، يعني: قد نعذر إنساناً في ليلة من الليالي سهر بعمل أو بغير عمل، أو أرق وما نام، ثم نام حتى طلعت الشمس، فهذا يعذر، لكن كونه يتخذ هذه عادة فليس بمعذور ولا يحل له).
ورأيت كلاما لشيخ الإسلام في مجموع الفتاوي لا يخلو من فائدة في الباب ونصه: "ومن عظم مطلق السهر والجوع وأمر بهما مطلقا فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي - كما تقدم - من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك؛ من العبادات.
والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول: كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول: ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث، وآخر من الأئمة يقول: بل الأفضل فعل هذا وهذا.
والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون تارة مرجوحاً أو منهياً عنه، كالصلاة؛ فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي - كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة - منهي عنها، والاشتغال حينئذ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك، وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع، دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر.
وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد.
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل.
والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له.
ومعرفة حال كل شخص، وبيان الأفضل له لا يمكن ذكره في كتاب، بل لا بد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق الله عبد إلا صنع له.
وفي الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[9]
فائدة:
ذكر مالك، أنه بلغه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ترسل إلى بعض أهلها، بعد العتمة فتقول: «ألا تريحون الكتاب»، وأخرجه ابن حبان في صحيحه موصولا: قال أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سمعتني عائشة - رضي الله عنها - وأنا أتكلم بعد العشاء الآخرة، فقالت: «يا عُرَيُّ  ألا تريح كاتبك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ينام قبلها ولا يتحدث بعدها»[10].
قال الزرقاني في شرح الموطأ: "قال أبو عبد الملك: أرادت بذلك - والله أعلم - أصحاب الشمال؛ لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة، فإذا تركها، فقد أراحها من كراهتها، وأما الملائكة الذين عن اليمين، فهم يسرون بعمل ابن آدم الصالح، فلا تعود الإراحة عليهم"[11]
قال أبو محمد: وهذا الخبر عندي لا يصح بل هو بلاغ لمالك، ومالك أثبت من ملء الأرض من جعفر بن سليمان، بل جعفر متكلم فيه، ولا يصح هذا الحديث من حديث هشام بن عروة فأين أصحاب هشام الجلة الحفاظ؟!
ثم وقفت على ما أخرجه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن رجل، من أهل مكة، عن عروة بن الزبير قال: كنت أتحدث بعد العشاء الآخرة فنادتني عائشة: ألا تريح كاتبيك يا عرية؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان «لا ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها» [12] فصح ما قال مالك.
وظاهر رواية عبد الرزاق براءة جعفر من العهدة إن كان محفوظا.

الهوامش:
[1] الإحياء، (1/196).
[2] فتح الباري لابن رجب، (9/119).
[3] فتح الباري لابن رجب، (9/116).
[4] شرح صحيح مسلم للنووي، (5/146).
[5] صحيح البخاري، رقم: (602).
[6] فتح الباري لابن رجب(5/173).
[7] نيل الأوطار (2/20).
[8] لقاء الباب المفتوح(95/15).
[9] مجموع الفتاوى(22/308).
[10] صحيح ابن حبان(5574).
[11] شرح الزرقاني للموطأ(4/405).
[12] مصنف عبد الرزاق(2149).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى