الهدي النبوي في صلاة العصر

الهدي النبوي في صلاة العصر





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فصلاة العصر هي الصلاة الوسطى بلا مراء؛ لما أخرج البخاري ومسلم من طريق هشام، عن محمد، عن عَبيدة، عن علي - رضي الله عنه -، قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»[1].
وهذا نص صريح قاطع للنزاع، وحكاية الخلاف بعد ذلك ما هي إلا تسويد للورق، وتضييع للدهر، والله المستعان.
النهي عن التنفل بعد صلاة العصر
وما بعد صلاة العصر فوقت نهي، والنهي معلق بفعل الصلاة، لا بدخول وقت صلاة العصر - كما هو أحد الأقوال في الصبح - وتقدم الكلام عليه.
والأحاديث في النهي عن الصلاة بعد العصر مستفيضة، وهو القول الراجح لأدلة كثيرة، وقد جاءت أخبار تدل على جواز التنفل بعد العصر والشمس نقية، وفي بعضها مرتفعة، وهي لا تقاوم في الصحة أحاديثَ النهي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هي تدل على الإباحة بالمفهوم، وقد عورضت بمنطوق الأخبار الصحيحة، والمنطوق مقدم على المفهوم.
وقد جاء الخبر بالإباحة في حديث علي الذي أخرجه جمع من طريق هلال بن يساف عن وهب بن الأجدع عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة»[2].
ينبغي الاشتغال بأذكار المساء بعد العصر
ويسن أن يشتغل بالأذكار المسائية في هذا الوقت، فهو أول وقت المساء، ويشتغل بما يصلح قلبه من ذكر وقراءة، وهذا الوقت وقت فاضل عظيم، وهو الأصيل، وهو ختام النهار.
قال الواحدي في تفسيره ما نصه: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106] "قال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر، وأهل الأديان يعظمون ذلك الوقت، ويتجنبون فيه الأكاذيب والحلف الكاذب" [3].
وقال السمعاني ما نصه: "أكثر العلماء على أنه أراد به: صلاة العصر، وقال الحسن: بعد صلاة الظهر، والأول أصح. وإنما خص به صلاة العصر؛ لأن وقت العصر معظم محترم عند جميع أهل الأديان"[4].
وقال الإمام الطبري رحمه الله: "وأولى القولين بالصواب عندنا، قول من قال: تحبسونهما من بعد صلاة العصر، وهي الصلاة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه، هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت؛ لقربه من غروب الشمس"[5].
وقال القاسمي في محاسن التأويل في كلام له على الصلاة الوسطى وفضلها ما نصه: "هذا وقد أيّد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر بأنها خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيعها، فقد قال أبو المليح: كنا مع بريدة في غزوة، فقال في يوم ذي غيم: بكروا بصلاة العصر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» أخرجه البخاري، وقوله: بكروا بصلاة العصر، أي قدموها في أول وقتها.
وروى الشيخان عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي: نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا، فاقدهما.
والمعنى: ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله.
وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطي في كتابه (كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل، قال عليه الرحمة:
فمنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم.
ومنها: حبوط عمل تاركها المضيع لها في الحديث السالف أيضا.
ومنها: أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم!
ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حافظ عليها كان له أجرها مرتين»، رواه مسلم.
ومنها: أن "انتظارها بعد الجمعة كعمرة" رواه أبو يعلى. وروى الحاكم: «كمن أتى بحجة وعمرة».
ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم... » إلى أن قال: «ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا، فجاء رجل فصدقه فاشتراها» متفق عليه. ثم قال: قلت:وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ} [المائدة: 106].
قال عامة المفسرين: بعد صلاة العصر، ولذلك غلظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر؛ لشرفه ومزيته.
ومنها: أن سليمان - عليه السلام - أتلف مالاً عظيماً من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس، فمدحه الله تعالى بذلك، وأثنى عليه بقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 30 - 31] الآيات.
ومنها: أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل: إنها بعد العصر. ومنها أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال.
ومنها: الحديث المرفوع: «إن الله تعالى يوحي إلى الملكين: لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة».
ومنها: ما جاء في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2]، قال مقاتل: "العصر هي الصلاة الوسطى أقسم بها"، حكاه ابن عطية.
ومنها: ما روي في الحديث، أن الملائكة تصف كل يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا فينادى الملك: ألق تلك الصحيفة، فيقول: وعزتك ما كتبت إلا ما عمل، فيقول الله عز وجل: «لم يرد به وجهي»، وينادى الملك الآخر: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول الملك: وعزتك إنه لم يعمل ذلك، فيقول الله عز وجل: «إنه نواه».
ومنها: أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب.
وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات. وذكر العلامة الفاسي - شارح القاموس، فيما نقله عنه الزبيدي - أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين. فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم.
سنح لي وقوي بعد تمعن - في أواخر رمضان سنة 1323 - احتمال قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238 ] بعد قوله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238 ] لأن يكون إرشاداً وأمراً بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسطاً، لا طويلاً مملاً ولا قصيراً مخلاً، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر.
ويؤيده الأحاديث المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قولاً وفعلاً، ثم مر بي في القاموس - في 23 ربيع الأول سنة 1324 - حكاية هذا قولاً، حيث ساق في مادة (وس ط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: "أو المتوسطة بين الطول والقصر".
قال شارحه الزبيدي: "وهذا القول رده أبو حيان في (البحر) "، ثم سنح لي احتمال وجه آخر: وهو أن يكون قوله {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238 ] أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي: ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وتوسيط (الواو) بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري، واستدل له بكثير من الآيات، وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى، وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر"[6]
والمقصود تفخيم هذا الوقت وجلالته وفضله وتغليظ الكذب والفجور فيه.
ولذا قال البخاري في صحيحه: "باب اليمين بعد العصر"، ثم روى من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق، يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له، ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها»[7].
قال في فيض القدير ما نصه: "خص العصر؛ لكونه وقت نزول الملائكة لرفع أعمال النهار، وإذا حلف كاذباً في ذلك الوقت ختم عمل نهاره بعمل سيء فكان جديراً بالإبعاد والطرد عن رب العباد" [8]
وقال في دليل الفالحين: "وتخصيص العصر بالذكر؛ لما ذكر، وقيل خص لعظيم الإثم فيهن، وإن حرمت اليمين الفاجرة كل وقت، إلا أن الله سبحانه عظم شأن هذا الوقت؛ لاجتماع الملائكة، ووقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت فيه العقوبة؛ لئلا يقدم عليها فيه تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه أعادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر تغليظا لليمين"[9].
وقال السندي على ابن ماجة ما نصه: "بعد العصر" للمبالغة في الذم؛ لأنه وقت يتوب فيه المقصر تمام النهار ويستعمل فيه الموفق الذكر ونحوه فالمعصية في مثله أقبح[10].
وقال في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: "وخص وقت بعد العصر؛ لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه؛ لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى -، وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين"[11].
وقال في الإحياء: قال الحسن: "كانوا أشد تعظيما للعشي منهم لأول النهار، وقال بعض السلف: كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة"[12].

الهوامش:
[1] البخاري(2931)، ومسلم (627)، وهشام هو: ابن حسان القردوسي، ومحمد هو: ابن سيرين، وعبيدة: ابن عمرو السلماني، مخضرم.
[2]أخرجه أحمد (1/ 129)، وابن خزيمة (1285)، والبيهقي في السنن (2/ 459)، وأخرجه الطيالسي (108)، وابن الجارود (281)، وأبو داود (1274) وقال البيهقي عقيب إخراجه: "ما مضى في النهي عنها ممتد إلى غروب الشمس حديث عدد فهو أولى أن يكون محفوظا"
[3] تفسير الواحدي(2/241).
[4] السمعاني(2/75).
[5] تفسير الطبري(5/111).
[6] محاسن التأويل (2/164).
[7] صحيح البخاري(2672).
[8] فيض القدير(3/30).
[9] دليل الفالحين(8/658).
[10] حاشية السندي على ابن ماجة(2/22).
[11] شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(2/169).
[12] إحياء علوم الدين(1/340).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الهدي النبوي في صلاة العصر doc
الهدي النبوي في صلاة العصر pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى