الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فيشتغل في هذا الوقت بما يناسب الحال، ويقرب إلى خير المحالّ عند الله، من الطاعات والقرب، روى في الحلية من طريق نافع: «أن ابن عمر كان يُحيي بين الظهر إلى العصر»[1]
وفي سير الذهبي: عون بن حكيم، قال: حججت مع الأوزاعي، فلما أتى المدينة، وأتى المسجد، بلغ مالكاً مقدمُه، فأتاه، فسلّم عليه، فلما صليا الظهر، تذاكرا أبواب العلم، فلم يذكرا باباً، إلا ذهب عليه الأوزاعي فيه، ثم صلوا العصر [2].
وكان وكيع بن الجراح الجهبذ يعلم الناس من القرآن ما يؤدون به فرضهم في هذا الوقت، ففي ترجمته في السير: سفيان بن وكيع، قال: كان أبي يجلس لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة التي يصعد منها أصحاب الروايا، فيريحون نواضحهم، فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن، ويذكر الله إلى آخر النهار[3]
وفي ترجمة هناد بن السري ما نصه: وقال أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ: كان هناد - رحمه الله - كثير البكاء، فرَغ يوماً من القراءة لنا، فتوضأ، وجاء إلى المسجد، فصلى إلى الزوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ، وجاء فصلى بنا الظهر، ثم قام على رجليه يصلي إلى العصر، يرفع صوته بالقرآن، ويبكي كثيراً، ثم إنه صلى بنا العصر، وأخذ يقرأ في المصحف، حتى صلى المغرب [4].
وفي ترجمة الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: كان لا يضيع شيئا من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر، ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم فيتوضأ، ويصلي ثلاث مائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى فقه قبل الظهر، وينام نومة، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع، أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائما، أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء، وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنسانا يوقظه، فيصلي لحظة ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، ربما توضأ سبع مرات أو ثمانيا في الليل، وقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبة، ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه[5].
وقال في الإحياء: "كان ذلك سنة السلف، كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع للمصلين دويا كدوي النحل من التلاوة، فإن كان بيته أسلمَ لدينه وأجمعَ لهمِّه فالبيت أفضل في حقه" [6]
والنقول عن السلف في هذا الباب كثيرة والمقصود الإشارة والتنبيه.
فائدة:
قال في المحلى ما نصه: "مسألة: قال علي: وقت الظهر أطول من وقت العصر أبداً في كل زمان ومكان؛ لأن الشمس تأخذ في الزوال في أول الساعة السابعة، ويأخذ ظل القائم في الزيادة على مثل القائم - عد طرح ظل الزوال - في صدر الساعة العاشرة، أما في خمسها الأول إلى ثلثها الأول: لا يتجاوز ذلك أصلاً في كل زمان ومكان؟ ووقت صلاة الصبح مساو لوقت صلاة المغرب أبداً في كل زمان ومكان؛ لأن الذي من طلوع الفجر الثاني إلى أول طلوع الشمس، كالذي من آخر غروب الشمس إلى غروب الشفق - الذي هو الحمرة أبداً - في كل وقت ومكان؛ يتسع في الصيف، ويضيق في الشتاء؛ لكبر القوس وصغره.
ووقت هاتين الصلاتين أبداً: هو أقل من وقت الظهر ووقت العصر؛ لأن وقت الظهر هو ربع النهار وزيادة؛ فهو أبدا ثلاث ساعات، وشيء من الساعات المختلفة ووقت العصر ربع النهار غير شيء فهو أبدا ثلاث ساعات، غير شيء من الساعات المختلفة.
ولا يبلغ ذلك وقت المغرب ولا وقت الصبح، وأكثر ما يكون وقت كل صلاة منهما ساعتين، وقد يكون ساعة واحدة وربع ساعة من الساعات المختلفة؛ وهي التي يكون منها في أطول يوم من السنة، وأقصر يوم من السنة: اثنتا عشرة، فهي تختلف لذلك في طولها وقصرها؛ وفي الهيئة أيضا كذلك، ولا فرق؟
وأوسعها كلها وقت العتمة؛ لأنه أزيد من ثلث الليل، أو ثلث الليل ومقدار تكبيرة في كل زمان ومكان -، وبالله تعالى التوفيق [7]
مسألة:
أخرج البخاري ومسلم كلاهما من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو - وهو ابن الحارث - عن بكير عن كريب، مولى ابن عباس، أن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أزهر، والمسور بن مخرمة، أرسلوه إلى عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعا، وسَلْها عن الركعتين بعد العصر، وقل: إنا أخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس عليها.
قال كريب: فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به، فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه فقولي له تقول أم سلمة: يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، قال: ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف، قال: «يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان»[8].
وهاتان الركعتين داوم عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهما من خصائصه، وإن كان أصل ابتدائهما قضاءً.
وقد أخرج مسلم من طريق محمد - وهو ابن أبي حرملة - قال: أخبرني أبو سلمة، أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر، فقالت: «كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما، أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها» قال يحيى بن أيوب: قال إسماعيل: تعني داوم عليها[9].
وخرج البخاري من طريق هشام، قال: أخبرني أبي، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ابنَ أختي «ما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدتين بعد العصر عندي قط»[10].
وإنما ذكرت هذه المسألة في حصة الظهر بناء على أصل الركعتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اختص بالمداومة وأصل القضاء، لا كما قال بعضهم باختصاصه بالأول، ولذا لم أذكر بعد صلاة العصر الخلاف في التنفل في هذه المسألة؛ ترجيحا لمطلق المنع، وإنما أشرت إلى مسألة أخرى، وسيأتي ذكرها، إن شاء الله.
الهوامش:
[1] الحلية(1/304)، وهو في سير الذهبي(235).
[2] سير أعلام النبلاء للذهبي(7/130).
[3] السير (9/139).
[4] السير(11/466).
[5] السير (21/425).
[6] الإحياء(1/339).
[7] المحلى(2/222).
[8] البخاري(1233)، ومسلم(834).
[9] صحيح مسلم(835).
[10] صحيح البخاري(591).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.