الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يقول الحسن البصري: (ما طُلِبَت الجنةُ إلا باليقينِ، ولا هُرِبَ من النارِ إلا باليقينِ، ولا صُبِرَ على الحقِّ إلا باليقينِ)([1]).
ويقول سفيان الثوري: (لو أن اليقينَ وقعَ في القلبِ كما ينبغي؛ لطارت القلوبُ اشتياقًا إلى الجنةِ وخوفًا من النارِ)([2])، وقال أيضًا: (اليقينُ أن لا تتهمَ مولاك في كلِّ ما أصابَك)([3]).
ويقول ابن رجب: (فمنْ حقَّقَ اليقينَ وثقَ باللهِ في أمورِه كلِّها، ورضي بتدبيرِه له، وانقطعَ عن التعلقِ بالمخلوقين رجاءً وخوفًا، ومنعه ذلك من طلبِ الدنيا بالأسبابِ المكروهةِ)([4]).
وقال البيهقي: (اليقينُ هو سكونُ القلبِ عندَ العملِ بما صدق به القلبُ، فالقلبُ مطمئنٌ، ليس فيه تخويفٌ من الشيطانِ، ولا يؤثر فيه تخوفٌ، فالقلبُ ساكنٌ آمنٌ، ليس يخافُ من الدنيا قليلًا ولا كثيرًا)([5]).
قال ابن القيم - رحمه الله - في "زاد المعاد": (لا يتمُّ صلاحُ العبدِ في الدارين إلا باليقينِ والعافيةِ، فاليقينُ يدفعُ عنه عقوبات الآخرةِ، والعافيةُ تدفعُ عنه أمراضَ الدنيا من قلبِه وبدنه)([6]).
وقال ابن القيم أيضًا: (اليقينُ من الإيمانِ بمنزلةِ الروحِ من الجسدِ، وبه تفاضلَ العارفون، وفيه تنافسَ المتنافسون، وإليه شمَّرَ العاملون، وهو مع المحبةِ ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامُه، وهما يُمدان سائرَ الأعمالِ القلبيةِ والبدنيةِ، وعنهما تصدرُ، وبضعفِهما يكونُ ضعفُ الأعمالِ، وبقوتِهما تقوى الأعمالُ، وجميعُ منازل السائرين إنما تُفتتحُ بالمحبةِ واليقين، وهما يثمران كلَّ عملٍ صالحٍ، وعلمٍ نافعٍ، وهدى مستقيمٍ)([7]).
وعَنْ عُمَرَ، قَالَ: ((إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَنَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ، فَقَالَ: أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَافَاةِ بَعْدَ الْيَقِينِ، أَلاَ إِنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ، أَلاَ إِنَّ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فِي النَّارِ))([8]).
وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ، وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللهَ عز وجل))([9]).
ولهذا قال أبو بكر الوراق - رحمه الله -: (اليقينُ مِلاكُ القلبِ، وبه كمالُ الإيمانِ، وباليقينِ عُرفَ اللهُ، وبالعقلِ عُقِلَ عن اللهِ)([10])، وقد عَظَّمَ السلفُ رحمهم الله اليقين ورفعوا من شأنه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الصبرُ نصفُ الإيمانِ، واليقينُ الإيمانِ كله)([11]).
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (وخيرُ ما أُلقي في القلبِ اليقينُ، وخيرُ الغنى غنى النفسِ، وخيرُ العلمِ ما نفع، وإنما يصيرُ أحدُكم إلى موضعِ أربعِ أذرعٍ، فلا تُمِلُّوا الناسَ ولا تسأموهم)([12]).
وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: (لو أنَّ اليقينَ استقرَّ في القلبِ كما ينبغي لطارَ فرحًا وحزنًا؛ شوقًا إلى الجنة، أو خوفًا من النار)([13]).
قال ابن القيم - رحمه الله -: (إنَّ أفضلَ الأحوال: الرغبةُ في اللهِ ولوازمها، وذلك لا يتم إلا باليقينِ والرضا عن اللهِ، ولهذا قال سهل: حظُّ الخلقِ من اليقينِ على قدرِ حظِّهِم من الرضا، وحظُّهم من الرضا على قدرِ رغبتِهم في اللهِ)([14]).
وحصول اليقين في القلوب علمًا وعقيدة وثقة واطمئنانًا، يجعل بعض الناس أئمة وسادة وقادة بين الناس، فقد كان السلف يقولون: (بالصبرِ واليقينِ تُنَالُ الإمامة في الدين)؛ قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]([15]).
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: (أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَرَجُلًا آخَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَحَدَّثَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فِي حَاجَةٍ لَهُمَا، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ، وَلَيْلَةٌ شَدِيدَةُ الظُّلْمَةِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقَلِبَانِ، وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ، فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا لَهُمَا حَتَّى مَشَيَا فِي ضَوْئِهَا، حَتَّى إِذَا افْتَرَقَ بِهِمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِلْآخَرِ عَصَاهُ، فَمَشَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ضَوْءِ عَصَاهُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى أَهْلِهِ)([16]).
وقال أمير المؤمنين علي - رحمه الله -: (لو كُشِفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقينًا)([17]).
ورَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، قَالَ: (قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ شَأْنُ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أَتَرَى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ)([18]).
قال أَبَو حَازِمٍ - وَهو يَعَظَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ -، فَقَالَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ: (مَا رَأَيْتُ يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِينَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ فِيهِ)([19]).
وقَالَ أَبُو تراب: (رأيتُ غلامًا فِي البادية يمشي بلا زادٍ، فَقُلْتُ: إِنْ لَمْ يكنْ مَعَهُ يقينٌ فَقَدْ هلك، فَقُلْتُ: يا غلام فِي مثل هَذَا الموضع بلا زاد، فَقَالَ: يا شيخ، ارفع رأسَك، هل ترى غَيْر اللَّهِ عز وجل، فَقُلْتُ: الآن اذهب حيثُ شئتَ)([20]).
عن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الكعبةَ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: (سَلْنِي حاجةً قال: إني لأستحي من اللهِ أن أسالَ في بيتِه غيرَه)، فلما خرجوا قال له: (فالآن سَلْنِي حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أَمْ حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: واللهِ ما سألتُ الدنيا من يملكها، فكيف أسألُ من لا يملكُها؟!)([21]).
وعن مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: (لَمَّا أَخَذَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ وَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ مَرَّ بِحَائِطٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ: "يَا وَلِيَّ نِعْمَتِي، وَيَا صَاحِبِي فِي وَحْدَتِي، وَعُدَّتِي فِي كُرْبَتِي"، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُو بِهَا حَتَّى خَلَّى سَبِيلَهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَائِطِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا مَكْتُوبًا)([22]).
الهوامش:
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.