الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يعد وقت الصبح هو للكسب والمعاش وطلب رزق الله، والنهوض بالكد وتحصيل ما يعود على النفس والعيال بالنفع في الدنيا والآخرة.
قال العز بن عبد السلام ما نصه: "واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع؛ فلذلك انقسمت الشريعة إلى العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية، وإلى العبادات المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالزكاة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة، وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا، كالبياعات والإجارات، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة بالطاعات على الطاعات، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان.."[1].
وروينا في صحيح البخاري من طريق عمرو بن يحيى، عن جده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"[2]
وقال ابن حبان في صحيحه: "ذكر البيان بأن الأنبياء لم تكن تأنف من العمل ضد قول من كره الكسب وحظره"، ثم روى من طريق يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود، فإنه أطيب" فقلنا: وكنت ترعى الغنم؟ قال: "نعم، وهل من نبي إلا قد رعاها"[3].
وقال أيضا: "ذكر الخبر المدحض قول من قال من المتصوفة بإبطال الكسب"، ثم روى من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان زكريا نجارا"[4].
وقال البخاري في صحيحه: "باب كسب الرجل وعمله بيده"، ثم روى من طريق معمر، عن همام بن منبه، حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن داود النبي عليه السلام، كان لا يأكل إلا من عمل يده"[5]، ومن طريق ابن شهاب، عن أبي عبيد، مولى عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، فيعطيه أو يمنعه"[6]، ومن طريق أبي الأسود، عن عروة، قال: قالت عائشة - رضي الله عنها – "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم، وكان يكون لهم أرواح، فقيل لهم: لو اغتسلتم"[7]، رواه همام، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة به.
فائدة: قال أبو الفضل ابن حجر ما نصه: وقد اختلف العلماء في أفضل المكاسب، قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة، قال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، وتعقبه النووي بحديث المقدام الذي في هذا الباب، وأن الصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، قال: فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب؛ لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي وللدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يوكل منه بغير عوض.
قلت: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو أشرف المكاسب؛ لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى، وخذلان كلمة أعدائه، والنفع الأخروي. قال ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل؛ لما ذكرنا.
قلت: وهو مبني على ما بحث فيه من النفع المتعدي ولم ينحصر النفع المتعدي في الزراعة، بل كل ما يعمل باليد فنفعه متعد؛ لما فيه من تهيئة أسباب ما يحتاج الناس إليه.
والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى.
قال ابن المنذر: إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل، كما جاء مصرحا به في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
قلت: ومن شرطه أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب، بل من الله تعالى بهذه الواسطة، ومن فضل العمل باليد الشغل بالأمر المباح عن البطالة واللهو، وكسر النفس بذلك، والتعفف عن ذلة السؤال والحاجة إلى الغير"[8].
قال أبو العباس في المجموع: وأما أرجح المكاسب فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به، وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى الله ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم"، وفيما رواه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر"، وقد قال الله تعالى في كتابه {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقال سبحانه {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وهذا - وإن كان في الجمعة - فمعناه قائم في جميع الصلوات؛ ولهذا - والله أعلم - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يدخل المسجد أن يقول: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، وإذا خرج أن يقول: "اللهم إني أسألك من فضلك"، وقد قال الخليل [9] - صلى الله عليه وسلم - {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17].
وهذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب، فالاستعانة بالله واللجوء إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم، ثم ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء، وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره «من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
وقال بعض السلف: أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} الذاريات: [56 - 58]، فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئا عاما، لكن إذا عنّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير - صلى الله عليه وسلم - فإن فيها
من البركة ما لا يحاط به، ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية" [10].
وقال ابن القيم في الهدي: "فإن قيل: فما أطيب المكاسب وأحلها؟ قيل: هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء:
أحدها: أنه كسب التجارة.
والثاني: أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة، كالحجامة ونحوها.
والثالث: أنه الزراعة، ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثراً ونظراً. والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كسب الغانمين، وما أبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم؛ ولهذا اختاره الله لخير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شيء إلى الله، فلا يقاومه كسب غيره. والله أعلم"[11]
قلت: وهذا أصح الأقوال في أفضل المكاسب .. والله المستعان.
وابن حجر أخذه من ابن القيم، أومن شيخه قبل ذلك!.
والمقصود أن أصفياء الله من رسله، وخيرة عباده كانوا يعملون في التجارة أو الصناعة، أو يؤجرون أنفسهم ويصونونها عن التطلع لما في أيدي الخلق، وقد أخرج أبو داود من طريق عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة، قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، قال: فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا، قال: وأتينا بقناع - ولم يقل قتيبة: القناع، والقناع: الطبق فيه تمر - ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هل أصبتم شيئا؟ أو أمر لكم بشيء؟" قال: قلنا: نعم، يا رسول الله، قال: فبينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس، إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح، ومعه سخلة تيعر، فقال: "ما ولدت يا فلان؟"، قال: بهمة، قال: "فاذبح لنا مكانها شاة"، ثم قال: "لا تحسبن" ولم يقل: "لا تحسبن أنَّا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة، ذبحنا مكانها شاة"، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا - يعني البذاء - قال: "فطلقها إذاً"، قال: قلت: يا رسول الله إن لها صحبة، ولي منها ولد، قال: "فمرها" يقول: عظها "فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك كضربك أميتك" فقلت: يا رسول الله، أخبرني، عن الوضوء، قال: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"[12].
فقد كان له كسب واتجار عليه الصلاة والسلام، وكذلك أصحابه - رضي الله عنهم -، فقد أخرج البخاري من طريق حميد، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وكان سعد ذا غنى، فقال لعبد الرحمن: أقاسمك مالي نصفين وأزوجك، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطا وسمنا، فأتى به أهل منزله، فمكثنا يسيرا أو ما شاء الله، فجاء وعليه وضر من صفرة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مهيم"، قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار، قال: "ما سقت إليها؟" قال: نواة من ذهب، - أو وزن نواة من ذهب - قال: "أولم ولو بشاة"[13].
وعثمان رضي الله عنه تجارته معلومة مشهورة.
وأخرج مسلم في صحيحه من طريق طلحة بن مصرف، عن خيثمة، قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - إذ جاءه قهرمان له فدخل، فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته"[14].
وروى أحمد في مسنده من طريق موسى بن عُلَيّ، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: بعث إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني" فأتيته وهو يتوضأ، فصعد فيّ النظر ثم طأطأه، فقال: "إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال رغبة صالحة"، قال: فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "يا عمرو، نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح"[15].
وبوب عليه ابن حبان بقوله: "ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله إذا قام بحقوقه فيه".
الهوامش:
[1] قواعد الأحكام في مصالح الأنام(2/77).
[2] صحيح البخاري(2262).
[3] صحيح ابن حبان(5143)، وحديث جابر في الصحيحين بسنده ومتنه.
[4] صحيح ابن حبان(5142)، وأخرجه مسلم(2379) أيضا.
[5] صحيح البخاري (2073)
[6] صحيح البخاري (2074).
[7] صحيح البخاري (2071).
[8] فتح الباري(4/404).
[9] يعني أن هذا من جملة ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في نصيحته لقومه، كما في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} [العنكبوت: 16 - 17]
[10] مجموع الفتاوى(10/662).
[11] زاد المعاد(5/702).
[12] سنن أبي داود(142).
[13] صحيح البخاري(2049).
[14] صحيح مسلم(996).
[15] مسند أحمد(17763).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.