المصدر الهرمسي

المصدر الهرمسي



ظهرت هذه الفلسفةِ في القرنِ الثاني الميلادي في الاسكندريةِ وتنسبَ  إلى هرمسِ الإسكندري[1]، وآراء هذه الفلسفةُ مبسوطةُ في كتبِ مصريةِ، ويونانية لا يعرفُ تاريخها، ولا أصلها على وجهِ اليقينِ والدقةِ.

يقول الدكتورُ نجيب بلدي:" فكتابات هذه الفلسفةُ مزيجُ من الأفلاطونيةِ، والحكمةُ المصريةُ، وبعض الأساطيِر اليونانيةِ وبعض أجزائها في الفلكِ اليونانيةِ أو يونانيين متمصريين تعلموا صياغةُ آرائهم في قالبِ مصري شرقي"[2].

ويقولُ الدكتورُ إبراهيم هلال:" فالاتجاهُ الذي تسيرُ فيه الهرمسيةِ هو اتجاهُ القرنُ الميلادي الثاني كله، وهو العودةُ إلى القديمِ، والاستعانةُ بالسحرِ والتنجيمِ والكيمياءِ في الوصولِ إلى المعرفةِ أو الكشفِ"[3].

فنجدهم يعتقدون أنهم إخوةُ للهواءِ، والشمسِ، والقمرِ، وأنهم انفصلوا عنهم، وأن السماءَ منبعُ وجودهم، فنجدُ في المؤلفاتِ الهرمسيةِ قولهم:" أيتها السماءُ منبعُ وجودنا، أيها الأثيرُ، أيها الهواءُ...أيها النورُ الذي لا ينطفئ للشمسِ والقمرِ، أيها الإخوةُ الأشقاءُ، أنتم انفصلنا عنهم، وتحملنا البؤسَ والشقاءَ بانفصالنا عنهم، وبالحلولِ في هذه الثيابُ الرذلةِ، إننا نناشدكم ما الإثم الذي ارتكبناه؟ ما هذا الإثمُ الذي استحقُ عذابنا الحاضرِ"[4].

يقول الدكتور نجيب بلدي:" فيصفون ميلادَ إنسانَ سماوي كاملَ مشابهَ من جميع الوجوهِ لأبيهِ السماوي، ومتمتع بجميع مزايا الإلهِ" ثم نجدُ تلميذُ الهرامسةِ يؤمنُ بتلك الأسطورةُ، يتعرفُ عندئذ عدم تعرضُ النفسُ للانحلالِ وخلودها"[5].

يقولُ الدكتورُ هلال:" من هنا رأينا هرمسَ يعملُ على الوصولِ إلى الطبيعةِ الكاملِ أو" الأنا" الجزءُ السماوي المكملُ لروحهِ الذي انفصلَ عنه ونزلَ إلى الأرضِ"[6].

يقولُ الهرامسةُ:" اعملْ على أن تصبحَ أكبر فأكبرِ حتى يصبحَ مقدارك لا متناهيا، وذلك بقفزةِ تحررك من جميع الحدودِ المكانيةِ والزمانيةِ، واعتبرْ أن لا شيء ممتنعَ عليك.

اجمعْ في نفسكِ تأثرات جميع الكائناتِ: النارُ والماءُ، واليابسُ والرطبُ، تصورْ أنك في كل مكانِ على الأرضِ، وعلى البحرِ وفي السماءِ، تمثلُ الإلهُ في كلِ شيِء وفي كلِ وقتِ، حتى في اللحظةِ التي لا تتوقعه عندها، فلا يوجدُ شيء إلا كان هوُ"[7].

ونجدْ أن ابن سبعين من الذين تأثروا بالفكرِ الهرمسي وعملَ على نشرهِ في أوساطِ المسلمين، حيث يقولُ في مقدمةِ كتابهِ بد العارفِ:" أما بعد فقد استخرت اللهَ العظيمَ على إفشاءِ الحكمةِ التي رمزها هرامسة الدهورِ الأوليةِ"[8].

ويقول في ترتيبِ الموجوداتُ:" إذا سئلتَ عن الموجوداتِ كم هي وكيف ترتبت عن الأولِ الحقِ وما هو المتقدمُ منها والمتأخرُ، فقلْ له الموجوداتِ نوعان: كلياتُ وجزئياتُ، فالكلياتُ منها تسعةُ مراتبُ كتسعة آحاد، أولها اللهِ عز وجل فاعل الكلِ وخالق كل شيءِ ثم العقلِ الكلي، ثم النفسِ ثم الطبيعةِ ثم الهيولي ثم الجسمِ المطلقِ ثم الفلكِ ثم الأركانِ ثم المولداتِ فهذه الكلياتُ، وأنت تنزلُ بالتحليلِ من الأعلى إلى الأنقصِ فالأنقص، والجزئياتُ تبتدئُ من أنقصِ الحالاتُ ثم ترتقي أولا فأولا غلى أرفعها وأعظمها.

مثال ذلك: أن تنتقلَ من الجمادِ إلى النامي إلى الحساسِ إلى العاقلِ إلى الحليمِ إلى النبي غلى الملكُ إلى اللهِ سبحانه"[9].

ويقولُ:" لا تكتملُ للسعيدِ سعادتهُ ولا جوهرهُ إلا بأن يعقلَ السببُ الأولُ الذي منه انبعثتَ الموجوداتُ، إلا أنه كل موجودِ يتعدى مرتبةُ ما من مرتبتهِ لا يمكنه أن يعقلها إلا أن يعقلَ ما بينه وبينها من الموجوداتِ التاليةِ له بالمرتبةِ، ويرى أن الموجودَ الثاني لا يحتاجُ في تكميلِ جوهرهُ إلى واسطةِ، الموجودُ الثالثُ لا يعقلُ عن الأولِ إلا بتوسطِ الثاني، وكذلك كل موجودِ من هذه الموجوداتُ الناطقةُ يحتاجُ إلى أن يعقلَ ما فوقه وما دونه ولذلك احتاجُ في كمالِ تجوهره غلى أن يعقلَ جميع الموجوداتِ كلها على التمامِ، والعلةِ في ذلكِ أن مرتبته من الوجودِ الفائضِ عن السببِ الأولِ يلي آخر المراتبِ"[10].

ويقول في الصوفي:" الصوفي هو العالمُ باللهِ العارفِ به الواصلِ لغايةِ الإنسانِ السعيدِ على الإطلاقِ"[11].

يقولُ الدكتورُ إبراهيم هلال :"كما أن بعض العقائدِ الهرمسيةِ الخاصةِ بالكونِ، مثل العقيدةُ الأساسيةُ التي تتناولُ التوافقُ بين الكونِ الصغيرِ :"الإنسان" والكونُ الكبيرُ "العالم"، يمكن أن نراها كثيراً في الكتاباتِ الصوفيةِ عن الكونِ وخاصة تلك التي كتبها "ابن عربي" مثل فصوصُ الحكمِ، وبعض فصولِ كتابِ الفتوحاتِ المكيةِ.

وعموما فقد تجمعت العقائدُ الهرمسيةُ الكونيةُ في المعتقداتِ الصوفيةِ بواسطةِ "ابن عربي"، وهذا ظاهرُ في كتاباتهِ وكتابات معظم ممثلي هذه المدرسةُ البارزين مثل "صدر الدين القنوي، عبد الكريم الجيلي، وابن توركاه الأصفهاني، وابن أبي جهور"[12].

ويمثلُ لهذه العقائدُ المشتركةُ بين الهرامسةِ والمتصوفةِ بقولهِ :"ووحدة الوجودِ التي ظهرتَ عند متفلسفي الصوفيةِ لها أصولها في هذه الفلسفةُ الهرمسيةُ كذلك"[13].

فغايةُ التصوفِ عندهم:" تقارنُ وجودي يصبحُ الإنسانُ فيه الوجودِ كله، ووجود يحملُ جواهرُ الموجوداتِ المختلفةِ معا، هذه هي المساواةُ بالإلهِ عندئذ لا نبقى نحن، بل نصبحُ هو، هو"[14].

ويقولُ الدكتورُ النشار عن الكتاباتِ الهرمسيةِ وأثرها في العالمِ الإسلامي:" وقد انتشرت هذه الكتاباتِ في العالمِ الإسلامي، وأثرتَ أثراً بالغاً في كثيرين من المفكرين الإسلاميين، وفي كتبِ الكثيرين من صوفيةِ الإسلامِ المتفلسفةِ"[15].

 

الهوامش:

[1]المعرج السابق (2/27).

[2]تمهيد لدراسة تاريخ مدرسة الإسكندرية وفلسفتها للدكتور نجيب بلدي (89).

[3]نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة (1/16).

[4]المؤلفات الهرمسية، نشر وترجمة فستوجير، طبعة باريس سنة 1945م، انظر: الدكتور هلال، نظرية المعرفة الإشراقية (1/19).

[5]تمهيد لدراسة تاريخ الإسكندرية  (101).

[6]نظرية المعرفة الإشراقية (1/19).

[7]تمهيد لتاريخ الإسكندرية (114)، نقلا عن المرجع السابق (1/114).

[8]المرجع السابق، ص (29).

[9]المرجع السابق (112).

[10]المرجع السابق (125).

[11]المرجع السابق (124).

[12]د. إبراهيم هلال: نظرية المعرفة الإشراقية (1/28).

[13]المرجع السابق (1/30).

[14]تمهيد لتاريخ مدرسة الإسكندرية (113)، نقلا عن المرجع السابق (1/30).

[15]د. علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/179-180).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المصدر الهرمسي.doc doc
المصدر الهرمسي.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى