الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فمن المفسدة العقدية في اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور الله تعالى، جاءَ في حديثِ جابرُ المزعوم:" أن الله تعالى خلق نور نبيه من نوره".
قال تعالى:{ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] نزلت هذه الآيةُ الكريمةُ في عتابِ المؤمنين لما تعاطى بعضهم حادثةِ الإفكِ على سبيلِ الحكايةِ ولم ينكروا ذلك وينزهوا اللهُ تعالى أن يحدثَ مثل هذا من زوجِ نبيه صلى اللهُ عليه وسل وأن يحكموا على هذه المقالةُ بأنها بهتان[1].
فيجبُ على كل مسلمِ أن ينزهَ اللهُ تبارك وتعالى مما نسبهُ إليه هؤلاء الغلاةُ من خلقِ نبيه صلى اللهُ عليه وسلم من نورهِ سبحانه، وإنما جاؤوا به افتراء للكذبِ على اللهِ، قالَ سبحانه:{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60]، وقالَ:{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]، وقالَ:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68].
فالمسلمُ لا ينسبُ شيئاً إلى اللهِ تعالى أو إلى رسولهِ صلى اللهُ عليه وسلم إلا وعنده فيه من اللهِ برهان، وقد ذمَ اللهُ تعالى أقواماً نسبوا إليه القولِ والفعلِ من غيرِ برهان منه سبحانه، قالَ تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وقالَ تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
ألا يعي هؤلاء الغلاةُ ما يخرجُ من رؤوسهم:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف: 5].
ويترتب على اعتقادِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم مخلوق من نورِ اللهِ تعالى: القولُ بوحدةِ الوجودِ والاتحادِ باللهِ تعالى.
فالنبي صلى اللهُ عليه وسلم عند أئمة الصوفيةِ خلقَ من نورِ اللهُ تعالى، ثم خلقَ من نورِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم بقية المخلوقاتِ، وهذا الذي ذهبوا إليه من خلقِ العالمِ أو صدوره عن ذاتِ اللهِ تعالى هو الشقُ الأولُ الذي يفسرُ لنا ما ذهبَ إليه هؤلاء الغلاةُ من القولِ بوحدةِ الوجودِ[2]، والفناءُ[3] أو الاتحادُ باللهِ تعالى.
يقولُ عارفهم ابن عربي:" فلما أرادَ-اللهُ- وجودَ العالمِ وبدأه على حدِ علمهِ ما علمه بنفسهِ انفعلَ عن تلك الإرادةُ المقدسةُ بضرب تجلَ من تجلياتِ التنزيهِ إلى الحقيقةِ الكليةِ، انفعلَ عنها حقيقةُ تسمى البهاءُ وهي بمنزلةِ طرحَ البناءُ الجصُ ليفتحَ فيها ما شاءَ من الأشكالِ والصورِ، وهذا أولُ موجود في العالمِ، ثم إنه سبحانه تجلى بنورهِ إلى ذلك البهاءُ، فلم يكن أقربُ إليه قبولاً في ذلك الهباءُ إلا حقيقةُ محمدُ صلى اللهُ عليه وسلم المسماةِ بالعقلِ[4]، فكان سيد العالمِ بأسرهِ وأول ظاهر في الوجودِ، فكان وجودهَ من ذلك النورِ الإلهي"[5].
ويقولُ عارفهم عبد الكريم الجيلي:" ولما خلقَ اللهُ تعالى العالمِ جميعه من نورِ محمدَ صلى اللهُ عليه وسلم كان المحلُ المخلوقُ منه اسرافيلِ قلبَ محمدَ صلى اللهُ عليه وسلم[6].
فخلقَ العالمُ أو صدوره عن ذاتِ اللهَ تعالى هو الشقُ الأولُ الذي يفسرُ لنا ما ذهبَ إليه هؤلاء الغلاةُ من القولِ بودةِ الوجودِ أو الاتحادِ باللهِ تعالى، وبيانُ ذلك يكون بعد إثبات أن ما ذهبوا غليه لم يكنْ وليدُ أفكارهم، وإنما كان مستمداً من مصادرِ فلسفيةِ قديمةِ تأثروا بها ونقلوها إلى المسلمين، وما زالَ تأثيرها إلى وقتنا الحاضرِ.
الهوامش:
[1]انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/136).
[2]مذهب يقول: إن الله تعالى والعالم حقيقة واحدة، وعرفت وحدة الوجود في التاريخ القديم، والمتوسط، وأوضح ما تكون عند الرواقيين وأفلوطين من اليونان، وعند ابن عربي بين المسلمين، ولها مؤيدين في التاريخ الحديث، انظر: المعجم الفلسفي (212).
[3]تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات، كلما ارتفعت صفة قامة صفة إلهية مقامها، انظر معجم المصطلحات الصوفية (207).
[4]قارن (233).
[5]الفتوحات المكية (1/911).
[6]الإنسان الكامل (2/26).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.