الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (9)

الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (9)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...
وأما المجموعةُ الأخيرةُ - السابعة -: فتتضمنُ ثلاثةَ أقوالٍ تتعلقُ بالمحبةِ الصوفيةِ ووحدة الوجود:

أولها: مفادُه أنَّ أبا القاسم الجنيد سُئِلَ عن المحبةِ؛ فقالَ: (دخولُ صفاتِ المحبوبِ على البدلِ منْ صفاتِ المُحِبِّ)([1]).

وقولُه هذا يتضمنُ القولَ بضلالةِ وحدةِ الوجود؛ لأنَّ معنى كلامِه أنَّ الحُبَّ لدى الصوفي -بعدَ قطعِه للطريقِ الصوفي وبلوغِه مقامَ المحبةِ - يتلاشى ويزولُ عَنْ ذاتِه ومحيطِه، فيتخلصُ مِنْ صفاتِه ورسومِه البشريةِ، وتحلُّ محلَّها صفاتُ المحبوبِ – الله -؛ وهنا يصبحُ المُحِبُّ رَبًّا وإلهًا، وبمعنى آخر يصيرُ المُحِبُّ هوَ المحبوب، والمحبوبُ هوَ المُحِب، حَسْبَ زعمِ الجنيد.

والقولُ الثاني: للحسين بن منصور الحلاج، وَصَفَ غايةَ المحبةِ الصوفيةِ بقولِه: (حقيقةُ المحبةِ: قيامُك مع محبوبِك بخلعِ أوصافِك)([2]).

وقولُه هذا يحملُ القولَ بوحدةِ الوجودِ، ولا يختلفُ في حقيقتِه عَنْ وصفِ الجنيد للمحبةِ الصوفيةِ ونهايتِها، فهي تتحققُ - حَسْبَ زعمِه - عندما يتلاشى الصوفيُّ وينخلعُ عنْ صفاتِه ورسومِه البشريةِ، وهنا فنى فِي اللهِ ويصبحُ ربًّا حَسْبَ زعمِه.

والقولُ الثالثُ والأخيرُ: لإبراهيمَ الخواص، وصفَ المحبةَ الصوفيةَ بأنها: (محوُ الإراداتِ، واحتراقُ جميعِ الصفاتِ وَالحاجاتِ)([3]).

واضحٌ مِنْ تعريفِه أنَّه يحملُ القولَ بوحدةِ الوجودِ، ولا يختلفُ عنْ التعريفاتِ السابقةِ، فهيَ كلُّها تبدأُ بممارسةِ العباداتِ الصوفيةِ التي تنتهي بصاحبِها إلى التلاشي والزوالِ، فتنمحي صفاتُه ورسومُه البشريةُ، ويفنى في اللهِ ليصبحَ ربًّا وإلهًا، حَسْبَ زعمِ الصوفي.

ويتبينُ مِنْ أقوالِ هؤلاء الثلاثةِ؛ أنَّ المحبةَ الصوفيةَ أوصلتْ القومَ إلى الاعتقادِ بوحدةِ الوجودِ، فهي كمَا كانتْ محبةً فاسدةً ومنحرفةً عَن الشرعِ في أساسِها، فإنها كانتْ أيضًا فاسدةً ومنحرفةً عنْ الشرعِ في غايتِها النهائيةِ، فأوصلتْ أصحابَها إلى الاعتقادِ بوحدةِ الوجودِ، التي هيَ تعطيلٌ وهدمٌ للشرعِ والعقلِ والعلمِ.

علمًا بأنَّ المحبةَ الشرعيةَ ليستْ كمَا زَعَمَ هؤلاء، وهذا أمرٌ سبقَ أنْ فصَّلناه، ويكفي لردِّها قولُه سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

وقولُه تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

وجاءَ في الحديثِ عنْ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمانِ: أَنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وَأَنْ يُحِبَّ المرءَ لَا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وأنْ يَكرَهَ أَنْ يعودَ في الكفرِ بَعْدَ إذ أنقذَهُ اللهُ منه كمَا يكرهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))([4]).

وممَّا يبطلُ المحبةَ الصوفيةَ أيضًا، هوَ أنَّ المحبةَ الشرعيةَ توصلُ إلى طاعةِ اللهِ والالتزامِ بشريعتِه قَلْبًا وَقَالِبًا، ولا تُوصِلُ إلى كفريةِ وحدةِ الوجودِ التي هي غايةُ العبادةِ الصوفيةِ، وكُلُّ محبةٍ لا تؤدي إلى الالتزامِ بالشرعِ فهيَ محبَّةٌ فاسدةٌ وباطلةٌ قطعًا.

كانتْ تلكَ مجموعًة كبيرةً مِنْ أقوالِ شيوخِ الصوفيةِ، زادتْ عَنْ 68 قولًا، تضمنتْ القولَ بوحدةِ الوجودِ تلميحًا أو تصريحًا، بالإشارةِ أوْ بالعبارةِ، فكانتْ شواهدَ كاشفةً وكافيةً لبيانِ حقيقةِ التصوفِ وأهلِه، وقدْ فصَّلْنَا في شرحِها وأوجَزْنَا في الرَّدِّ عليها.


الهوامش:

([1]) اللمع، السراج الطوسي، ص(88).

([2]) الرسالة القشيرية، ص(144).

([3]) اللمع، السراج الطوسي، ص(87).

([4]) صحيح الجامع الصغير، الألباني، (1/291)، (3044).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (9).doc doc
الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (9).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى