الأخوةُ والمحبةُ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ في المجتمعِ

الأخوةُ والمحبةُ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ في المجتمعِ



ِ
المجتمعُ الإسلامي بناءٌ متماسكٌ كالجسدِ الواحدِ، كلُّ فردٍ فيه يشكلُ لبنةً لها موضعُها ودورُها في تقويةِ ذلكَ المجتمعِ وترابطِه.
وسعادةُ هذا المجتمعِ تنبعُ منْ سعادةِ أفرادِه الذين زكتْ نفوسُهم بطاعةِ ربِّهم، وأشرقَ نورُ الإيمانِ في قلوبِهم، فعمَّ ذلكَ النورُ أرجاءَ المجتمعِ وانقشعتْ عنه الظلماتُ.
وبهذه النفوسِ المزكاةِ يسودُ الخُلُقُ الحميدُ في المجتمعِ، وينتشرُ التراحمُ والتعاطفُ، وتتكونُ أصلبُ أرضٍ تنهضُ عليها أقضيةُ الإسلامِ وأحكامُ العامةِ، سرعان ما يخضعُ الأفرادُ لسلطانِ تلكَ التزكيةِ التي أشرقتْ في أفئدةِ أكثريةِ الناسِ وصقلتْ نفوسَهم([1]).
وَبَيَّنَ المولى سبحانه أنَّ صلاحَ النفوسِ يؤدي إلى صلاحِ الأمةِ وتغييرِها، وفسادَها يورثُ فسادَ المجتمعِ؛ فقالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وَقَالَ سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
فأساسُ الصلاحِ والفسادِ يبدأُ من الأفرادِ، وينعكسُ على المجتمعِ بأسرِه؛ لأنَّ الفردَ هوَ الخليةُ الأولى في بناءِ المجتمعِ.
وتتجلى سعادةُ المجتمعِ في أمورٍ كثيرةٍ، ومنْ أبرزِها:
الأخوةُ والمحبةُ:
امتنَّ اللهُ سبحانه على عبادِه المؤمنين بأنَّه أنقذَهم بالإسلامِ منْ ظلماتِ الكفرِ والبغضاءِ والعداواتِ التي كانتْ متأصلةً في المجتمعِ الجاهلي بقبائلِه المتناحرةِ وعاداتِه الجائرةِ؛ فقالَ تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].
فإذا تمسكَ أفرادُ المجتمعِ بدينِهم، وحرصوا على تزكيةِ نفوسِهم وتطهيرِها منْ أدرانِ الأنانيةِ والأحقادِ، فإنَّ الأخوةَ والمحبةَ بينهم ستنمو روابطُها، وتسمو مقاصدُها، وتتحولُ مِنْ محبةٍ غايتُها المصالحُ الدنيويةُ إلى محبةٍ خالصةٍ للهِ - عَزَّ وجل -، ينالُ بها المتحابون سعادةَ الدنيا وَالآخرةِ.
فقدْ روى مسلم عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((إِنَّ اللهَ تعالى يقولُ يومَ القيامةِ: أينَ المتحابون بجلالي؟ اليومَ أُظِلُّهُمْ فِي ظلِّي يومَ لَا ظِلَّ إلَّا ظلي))([2]).
وعنه - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((والذي نفسِي بيدِه، لا تدخلون الجنةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أولا أدلكُم على شيءٍ إذا فعلتمُوه تحاببتمْ؟ أفشوا السلامَ بينكمْ))([3]).
فلا يتمُّ إيمانُ المرءِ حتَّى يحبَّ إخوانَه فِي اللهِ - عزَّ وجلَّ -، وهذا الحبُّ والتآخي والتآلفُ بينَ القلوبِ هوَ الأساسُ في بناءِ المجتمعِ الفاضلِ وتقويةِ روابطِه.
والحديثُ عنْ الأخوةِ الإيمانيةِ وما وردَ في منزلتِها وفضلِها منْ أدلةٍ شرعيةٍ وشواهدَ تاريخيةٍ وحِكَمٍ وأمثال، حديثٌ متسعُ الجوانبِ، والذي ينبغي بيانُه هنا الآثارَ العظيمةَ لتلكَ الأخوةِ في سعادةِ المجتمعِ المسلمِ، والتي ظهرتْ عمليًّا منذُ الأيامِ الأولى لإقامةِ المجتمعِ الإسلامي الأولِ في المدينةِ المنورةِ بعدَ هجرةِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم – إليها.
وذلكَ عندما آخى بينَ المهاجرين والأنصارِ مؤاخاةً لم نشهدْ لها نظيرًا، حتَّى إنَّ الأنصاريَّ كانَ يعرضُ على المهاجري أنْ يقاسمَه أموالَه، وأنْ يختارَ أيًّا منْ زوجتيه - إنْ كانتْ عنده ثانية - ليطلقَها فيتزوجها بعدَ عدتِها، ولم يكنْ ذلك العرضُ مجاملةً وتظاهرًا، وإنما كانَ عرضًا صادقًا نابعًا مِنْ أعماقِ القلبِ، وصادرًا عنْ طيبِ نفسٍ([4]).
فقدْ روى البخاريُّ ومسلم عنْ أنس - رضيَ اللهُ عنه -، أنَّ عبدَ الرحمنِ بن عوف - رضيَ اللهُ عنه - قَدِمَ المدينةَ فآخى رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - بينه وبينَ سعدِ بن الربيعة الأنصاري - رضيَ اللهُ عنه -.
فقالَ له سعد: (أي أخي، أنَا أكثرُ أهلِ المدينةِ مالًا، فانظرْ شطرَ مالي فخذْهُ، وتحتي امرأتان، فانظرْ أيهما أعجب إليك حتَّى أطلقَها).
فقالَ عبدُ الرحمنِ: (باركَ اللهُ لكَ في أهلِك وَمالِك، دلوني على السوقِ)، فدلُّوه عليه فذهبَ فاشترى وباعَ وربحَ([5]).
ومَا أعظم وصف اللهِ لهؤلاء المؤمنين الصادقين الذي توثقتْ رابطةُ المحبةِ وَالأخوةِ بينهم حتَّى أثمرتْ الإيثارَ، بحيثُ يقدِّمُ الواحدُ منهم أخاه على نفسِه في ضرورياتِ الحياةِ، ولوْ كانَ بأشدِّ الحاجةِ إليها.
وفي ذلكَ يقولُ تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
فالمجتمعُ الإسلامي الأولُ سما وأشرقَ بنورِ الإيمانِ، وأُقِيمَ بهذا الحبِّ وَالبذلِ السخي وَالمشاركةِ الراضيةِ، والتسابقِ إلى احتمالِ الأعباءِ، والإيثارِ على النفسِ مع شدةِ الحاجةِ، وَكُلُّ ذلكَ البذلِ والعطاءِ نتيجةٌ وثمرةٌ للنفوسِ المؤمنةِ الزكيةِ التي تطهرتْ مِنَ الشحِّ فظفرتْ بالفلاحِ.
وَلَقَدْ تطورتْ أركانُ المجتمعِ الإسلامي قرونًا عديدةً بهذا الإخاءِ الرفيعِ، وهذه المحبةِ الساميةِ في ظلِّ العقيدةِ، فانطفأتْ نارُ العداوةِ بينَ القبائل المتناحرةِ، وتطهرتْ النفوسُ من النظرةِ الجاهليةِ البغيضةِ، وَغُرِسَ فيها الحبُّ وَالإخاءُ، فلَا فضلَ لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسود إلَّا بالتقوى.
وهذا هوَ المبدأُ القرآني الذي وَرَدَ فِي قولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
 
الهوامش:

([1]) ينظر: على طريق العودة إلى الإسلام، محمد سعيد رمضان البوطي، ص(207-208).

([2]) رواه مسلم، كتاب البر والصلة  والآداب، باب فضل الحُبِّ في اللهِ تعالى، (2566).

([3]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمن، (54).

([4]) معاني الأخوة في الإسلام، ص(19).

([5]) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب قول الرجل لأخيه: انظر أي زوجتي شئتَ، (6/118).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الأخوةُ والمحبةُ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ في المجتمعِ.doc doc
الأخوةُ والمحبةُ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ في المجتمعِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى