شروط تحقيق النوافل دورها في تزكية النفس

شروط تحقيق النوافل دورها في تزكية النفس






الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وبعد، فإن للنوافل أعظم الأثر في تزكية التنفس وتنقيتها وتهذيبها ولكي تحقق هذه النوافل دورها في تزكية النفس لابد أن يتوفر فيها ما يلي:
الشرط الأول: ترك الإصرار على المعاصي
       الإصرار على المعاصي والانغماس فيها له آثار سيئة على النفس والقلب، ولا يمكن للعبد أن يحظى بالقرب من الله تعالى وينال بركة الطاعات وثمرات العبادات وهو غافل عن ربه منغمس في المحرمات.
       يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:" إن الذنوب والمعاصي تضر، ولابد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟"[1].
       وأبرز أضرار المعاصي التي يصر صاحبها عليها ولا يبادر إلى التوبة منها، أنها تجعل القلب مظلما مسودا، وتحجبه عن التأثر بالذكر والدعاء وسائر العبادات، وتحرمه من الانتفاع بها.
       وهذا ما أوضحه الحديث النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلب نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلوا قلبه، وهو الران الذي ذكر الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]"[2]
       فالذنوب إذا كثرت تعمي القلب وتجعله منكوسا لا يتأثر بموعظة، ولا يخشع لدعاء أو ذكر أو تلاوة للقرآن، فهو كالإناء أو الكوز المقلوب الذي لا يبق فيه شيء من ماء إذا أردت أن تضع فيه شيئًا تساقط على جوانبه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:" إن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانا، ثم يغلب حتى يصير طبعا وقفلا وختما، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله"[3].
ولهذا كان لابد لمن أراد أن يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل يزكي نفسه بها، أن يتخلى عن المعاصي وبخاصة الكبائر حتى ينفتح القلب للطاعة ويحيى بها، ويوفق للإكثار منها، ويجد الهمة والنشاط في أدائها.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في بيانه للطريق الذي يزكو به القلب:" وكذلك تلك المعاصي، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، ومثل الدغل في الزرع، وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغا من تخليطاته، فتخلصت قوة القلب وإراداته للأعمال الصالحة واستراح القلب"[4].
       وما أجمل قول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب       وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب                 وخير لنفس عصيانها
ومن أبرز المعاصي التي تقسي القلب، وتحرم العبد من أنوار الطاعة وآثارها: أكل المال الحرام، وقد ورد في ذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا..." إلى قوله:" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟"[5].
وفي هذا الحديث بيان لحال هذا الرجل الذي يدعو ربه وهو متحقق بكثير من آداب الدعاء والأسباب التي تقتضي الإجابة، فهو يطيل السفر وهذا مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة وتحمل المشاق، ثم هو أشعث أغبر خرج متواضعا متذللا، كما أنه يمد يديه ويرفعهما إلى السماء بإلحاح وتضرع،" والله سبحانه حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما خائبتين"[6]،ثم إن الرجل يلح في دعائه بتكرير ذكر ربوبة الله عز وجل ( يا رب يارب)، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء[7]، ومع كل ذلك سدت أبواب الإجابة في وجهه لأنه كان يأكل المال الحرام ويتغذي به، وهذا يشير إلى تعلقه وحرصه الشديد على الدنيا وأموالها والتنافس فيها.
فمن أراد أن يتقرب إلى الله سبحانه بالذكر والدعاء فليزم طاعته وليبتعد عن طريق المعاصي وبخاصة الكسب الحرام لينال الخيرات وتنزل الرحمات.
ولهذا قال سعيد بن جبير رحمه الله:" الذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن أكثر التسبيح وتلاوة الكتاب"[8].
الشرط الثاني: حضور القلب:
إذا حرص العبد على اجتناب المعاصي، وسارع إلى التوبة مما اقترفه منها، فإن القلب يغسل من أدرانه، ويلين من قسوته، وما على صاحبه إلا أن يبادر إلى الطاعات ويكثر من النوافل، وليكون ذلك دواء لهذا القلب أسقمته المعاصي وأوهتنه الذنوب.
وأعظم غذاء للقلب يعيد إليه حياته ويقظته ذكر الله تعالى مع التدبر والخشوع والتفكر وذلك بتلاوة القرآن الكريم والتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء ونحو ذلك، وبغير التدبر وحضور القلب لا ينال العبد ما يرجوه من ثمرات.
قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وقد ذم الله سبحانه قسوة القلب والغفلة عن ذكره وحض على الخشوع والتدبر، فقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 22، 23].
كما بين سبحانه أن هذا القرآن لو أنزل على الجبال القاسية لخشعت وتصدعت من خشية الله، فقلب المؤمن أحق بالخشوع وأجدر.
قال تعالى: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
ولذلك ينبغي للعبد أن يستجلب الخشوع في ذكره وتلاوته للقرآن وأن يحضر قلبه ويبعد عنه الغفلة ليحصل له المقصود.
قال الحافظ النووي:" المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه"[9].
ولهذا كان الفرق كبيرًا بين من يذكر ربه مع حضور القلب، وبين من يغفل عن ذكر الله سبحانه وقد بين ذلك لحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت"[10].
فالذكر حياة للقلب وتنوير له، والغافل عن الذكر شبيه بالأموات لأن الغفلة تميت القلب، ولذلك كان الطريق الأساسي لحياة القلب وتزكية النفس استجلاب الخشوع وطرد الغفلة، ومجاهدة النفس على كمال الخشوع وصدق التوجه إلى الله سبحانه في عبادته، وهذا ما دعانا إليه ربنا سبحانه بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:" ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين"[11]، وفي رواية للنسائي:" فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا"[12].
وكما أن الذكر وتلاوة القرآن الكريم لابد فيهما من حضور القلب، فكذلك الدعاء لابد له من قلب يقظ وتوجه صادق.


الهوامش:

[1] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (43).

[2] رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (74)، رقم (3334)، وقال حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان، (2448)، والحاكم (2/517)، ووافقه الذهبي.

[3] الجواب الكافي (63).

[4] مجموع الفتاوى (10/96-97).

[5] رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (1015).

[6] رواه ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، رقم (3865)، والإمام أحمد في مسنده (5/438).

[7] ينظر، جامع العلوم والحكم، لللإمام ابن رجب، ص(90-92).

[8] شرح السنة للإمام البغوي (5/10).

[9] الأذكار للنووي (34).

[10] رواه البخاري في الدعوات، باب فضل ذكر الله(7/168)، ومسلم في المسافرين (779).

[11] رواه مسلم في التفسير، باب في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [الحديد: 16]

[12] رواه النسائي.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
شروط تحقيق النوافل دورها في تزكية النفس.doc doc
شروط تحقيق النوافل دورها في تزكية النفس.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى