الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم وبعد فروح الصلاة هو الخشوع لله تعالى ولاستجلاب الخشوع وحضور القلب في العبادة أسباب عديدة ، من أبرزها:
أولا: التدبر:
التدبر[1] هو الفهم لما يتلو العبد من قرآن وما ينطق به من ذكر ودعاء ونحو ذلك ولو بشكل مجمل، والتأمل في معانيها ومراميها، وأن يقيس المسلم نفسه على ما يتلوه من الأوامر والنواهي ليجد حاله ويعرف تقصيره، وبذلك يستحضر الخشية من الله سبحانه ويخشع قلبه وتسكن جوارحه ويجتهد في الطاعة.
ولذلك يستحب للعبد أن يكرر بعض الآيات الكريمة ويرددها أثناء تلاوته ليكون ذلك أدعى للتدبر والخشوع.
روى النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه قال:" قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]"[2].
وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر هذه الآية حتى أصبح: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21][3].
عن عروة بن الزبير قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يومًا، فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور: 27] فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال علي ذلك، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو"[4].
وكما يطلب التدبر عند تلاوة القرآن الكريم وسماعه، فإنه يطلب عند ذكر الله، وذلك بأن يستحضر العبد عظمة ربه، ويتفكر في مخلوقاته وبديع صنعه وآلائه ونعمه، ويستشعر مقام العبودية والتذلل لخالقه، وهذا ما أرشد الله إليه عباد بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191].
وكذلك يطلب التدبر عند الدعاء، بأن يتخير العبد من الدعاء المأثور ما يحرك به قلبه ويلين قسوته، ويدعو ربه متواضعًا متذللًا بين يديه، ويسأله حاجته كلها وهو موقوف بالإجابة.
ثانيا: البكاء:
البكاء صفة الخاشعين عند تلاوة القرآن الكريم أو سماع آياته، وعند ذكر ربهم أو دعائه، وعند الوقوف بين يدي مولاهم في الصلوات، فهو ثمرة للخشوع وحضور القلب، كما أنه طريق لاستجلاب الخشوع وإيقاظ القلب.
وقد وصف ربنا سبحانه حال عباده الأبرار فقال تعالى: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم: 58].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء: 107 - 109].
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ آيات من سورة النساء على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:" حسبك الآن، فلتفت فإذا بعيناه تذرفان"[5].
وهكذا كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح في تلاوتهم للقرآن الكريم وذكرهم لله تعالى لهم فيه حنين وأنين ونشيج وبكاء، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنه.
فإن لم يجد العبد هذا الخشوع، ولم تسل دموعه بالبكاء، فليجاهد نفسه وليتباك مستحضرًا خشيته من ربه، فإن هذا التباكي طريق لحضور القلب.
وهذا ما أوصى به الرسول صلى الله عيه وسلم أمته كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"[6].
ولهذا قال الإمام السيوطي:"يستحب البكاء عند قراءة القرآن، والتباكي لمن لا يقدر عليه، والحزن والخشوع"[7].
كما بين الغزالي الطريق لاستجلاب البكاء واستحضار الخشوع وهو أن يحضر في قلبه الحزن بأن يتأمل ما في القرآن من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي، فإن لم يحضره حزن وبكاء فلبيك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب[8].
ثالثا: اغتنام فترات النشاط والراحة:
لا يمكن للنفس أن تبقى على حالة واحدة من النشاط والهمة، فالمشاغل والمتاعب والأمراض والأكدار تفقد النفس نشاطها، فإذا أراد العبد أن يستحضر الخشوع في قلبه في هذه الحالات قد لا يجد إلى ذلك سبيلا، لابد له من بعض الراحة والترويح عن النفس حتى يجدد نشاطه، وعندها يحضر قلبه وتطمئن نفسه، وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها:
-ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقونن فإن الله لا يمل حتى تملوا"[9].
وقد بين الحافظ النووي رحمه الله ما يرشد إليه هذا الحديث فقال:" في هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحا"[10].
-وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد"[11].
-وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعلع يذهب يستغفر فيسب نفسه"[12]-أي يدعو عليها-.
-وعن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا"[13].
قال الحافظ ابن كثير في شرحه لهذا الحديث:" معنى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة على تلاوته، متفكرة فيه متدبرة له، لا في حال شغلها وملالها، فإنه لا يحصل المقصود من التلاوة بذلك، كما ثبت في الحديث:" عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتمى تملوا"[14]"[15].
فالعبد الموفق هو الذي يغتنم أوقات صحته ونشاطه وفراغه في الإقبال على الطاعات والإكثار من النوافل، لأنه سيجد سهولة في استحضار الخشوع واستجلاب الدموع قد لا يجدها في أوقات التعب والإرهاق.
ومن فرط في هذه الأوقات فهو المغبون، وهذا الغبن أشد مما يتعرض له التجار في تجارتهم المادية من خسائر فادحة لأن الأموال تعوض والأوقات لا تعوض.
وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"[16].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه:" اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"[17].
وما أحسن قول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إن كنت فارغا مستريحا
وإذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحا[18]
ومن الآفات التي يقع فيها كثير من المسلمين أنه إذا لمس أحد من نفسه نشاطا يؤهله لحضور القلب مع ربه في صلاة أو ذكر أو دعاء جاءه الشيطان يسوف له، ويذكره بأنواع من المشاغل والأعمال ليصده عن طاعة الله.
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله:" إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم"[19].
رابعا: اعتنام الأوقات والأماكن الفاضلة:
لقد اختص الله سبحانه بعض الأوقات والأماكن بمزيد من الفضل، وجعلها موطنا لتنزل الرحمات واستجابة الدعوات، فإذا حرص المؤمن عليها وتعرض لها كان ذلك أدعة لحضور القلب والخشوع والتأثر، ومن هذه الأوقات الثلث الأخير من الليل وساعة الإجابة في كل ليلة.
فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة"[20].
-وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟
قال:" جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات"[21].
كما أن شهر رمضان المبارك فرصة عظيمة لاستزادة من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن الكريم وقيام الليل، فهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخرة عتق من النار، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، فمن بادر إلى الطاعات في هذه الأوقات أكرمه الله بتنزل الرحمات فيخشع قلبه ويتذوق حلاة الطاعة، ويحظى بآثارها في تزكية نفسه واستقامة سلوكه.
وأما الأماكن فأفضلها بيت الله الحرام بجوار الكعبة المشرفة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحوي روضة من رياض الجنة، فيا سعادة من وفقه الله لذكره وعبادته في تلك البقاع المباركة التي يخشع فيها القلب وتذرف فيها الدموع.ولا شك أن المساجد عموما مواضع لتنزل الرحمات، فمن كان يشكو من قسوة قلبه فليسارع إلى المسجد، وليجلس فيه بتواضع وسكينة يدعو ربه ويذكره ويتلو آياته، ويجاهد نفسه على الخشوع والتدبر، وإذا به يجد قلبه حاضرا وقد طردت منه الغفلة وحلت فيه الطمأنينة.
وهكذا نجد أن حضور القلب يسير على من يسره الله عليه، وأن الذي يبذل جهده ليبعد الغفلة عن قلبه لا بد أن يتخذ لذلك الأسباب حتى لا يكون الذكر والدعاء حركة باللسان لا يصحبها الجنان.
وهنا يرد سؤال:
إذا كان المسلم لا يجد خشوعا في الذكر ولا يحضر قلبه فيه فهل يتركه لأنه قليل الجدوى؟!
والجواب أن الذكر مع غفلة القلب خير من السكوت، لأنه انشغال عضو بطاعة الله وهو على الأقل يحجز هذا العضو- وهو اللسان- عن المعصية، فالذكر وإن كان مع الغفلة تحصين للسان من آفاته، ولعل القلب يتحرك بالخشوع ساعة ما، فيترقى هذا الذكر إلى ذكر القلب واللسان، ولو أن اللسان وقف عن الذكر فإن القلب سيزداد غفلة، وينجرف المرء مع دوامة الحياة، وقلما يخر على باله ذكر ربه[22].
ولا شك أن الذكر ليس مقصورا على التسبيح والتحميد ونحوهما، وإنما هو شامل لكل طاعة يتلفظ بها اللسان مع حضور القلب، ولهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:" إن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب من الله إلى من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله"[23].
[1] أصل التدبر لغة: التفكر في دبر الأمور، أي في عواقبها وما تؤول إليه.
[2] رواه النسائي ، باب ترديد الآية برقم 1084 ، (2/177) ، وابن ماجه ، باب ما جاء في القراءة في قيام الليل ، برقم 1350 ، حسنه الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجة 3/ 350 .
[3] رواه النسائي في الكبرى ، كتاب المواعظ ، برقم 11833 ، 10/ 400 ،وانظر التبيان في آداب حملة القرآن، للحافظ النووي (67).
[4] صفة الصفوة لابن الجوزي ، 2 /31 ، وانظر التبيان للنووي(67).
[5] رواه البخاري في فضائل القرآن، باب قول المقرئ لقارئ حسبك(6/113)، ومسلم في صلاة المسافرين باب فضل استماع القرآن، (800).
[6] رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب (19)، (4196)، وكتاب إقامة الصلاة(1337)، وقال الحافظ العراقي في تخريجه على الإحياء (1/277): اسناده جيد.
[7] الإتقان في علوم القرآن (1/297).
[8] إحياء علوم الدين(1/227).
[9] صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضيلة العمل الدائم (782).
[10] شرح النووي على صحيح مسلم (6/71).
[11] رواه البخاري في أبواب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة (2/48)، ومسلم في صلاة المسافرين باب أمر من نعس في صلاته أن يرقد رقم (784).
[12] رواه البخاري في الوضوء، باب الوضوء من النوم (1/60)، ومسلم في الباب السابق نفسه رقم (786).
[13] رواه البخاري في فضائل القرآن، باب اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم (6/115) و ورواه مسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن (2667).
[14] رواه البخاري في الرقاق (8/122)، وفي الصوم(3/50)، ومسلم رقم(785).
[15] فضائل القرآن للحافظ ابن كثير (6/115).
[16] رواه البخاري في الرقاق، باب الصحة والفراغ (7/170).
[17][17] رواه الحاكم في المستدرك (4/306)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في حاشية (اقتضاء العلم العمل)، للخطيب البغدادي (100).
[18] طبقات الشافعية للإمام تاج الدين السبكي(1/286).
[19] اقتضاء العلم العمل لإمام الخطيب البغدادي (113).
[20] رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء رقم(757).
[21] رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب (79)، رقم (3499)، وقال: حديث حسن.
[22] الجانب العاطفي من الإسلام للشيخ محمد الغزالي(82).
[23] مجموع الفتاوى (1/661).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.