التوحيدُ الصوفي (3)

التوحيدُ الصوفي (3)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...صرَّحَ الصوفيةُ أنَّ التوحيدَ الصوفي هوَ مِنْ غاياتِ التصوفِ وأسرارِه، ولهذا اهتموا بِه كثيرًا، وعبَّرُوا عنه غالبًا بالإشارةِ دونَ العبارةِ، كمَا فعلوا مع قولِهم بالفناءِ في اللهِ الذي وَصَّلَهم إلى الاعتقادِ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، فما تفصيلُ ذلكَ؟ وما هوَ حقيقةُ ذلك السرِّ؟ ولماذا تواصوا بإخفائِه؟ ولماذا قالوا به واعتقدوه؟

ونكمل ما بدأناه في أقوال الصوفية في التوحيد:

القولُ الثالثُ عشر:

قالَ علي بن إبراهيم أبو الحسن الحصري البغدادي: (أصولُنا في التوحيدِ خمسةُ أشياء، منها: رفعُ الحَدَثِ وَإِفْرَادُ القِدَمِ ...)([1]).

فالرجلُ جعلَ القولَ بوحدةِ الوجودِ مِنْ أصولِ التوحيدِ الصوفي، ومعناه: أنَّ الصوفيَّ عندما يكونُ في مقامِ التوحيدِ يصلُ إلى حالِ التفريدِ، وفيه يفردُ "القِدَمِ عَنْ الحَدَثِ" بأمرين:

الأول: يتخلصُ مِنْ رسومِه وأشباحِه التي تحملُ مظاهرَ الحدوثِ.

الثاني: عندما يستشعرُ الألوهيةَ، وهنا يُفْرِدُ القِدَمَ - الله - عنْ الحدثِ، بمعنى أنَّه يكتشفُ أنَّه هوَ الله، ولا موجودَ على الحقيقةِ إلَّا هو، حَسْبَ زعمِ الرجلِ.

والقولُ الرابعُ عشر:

قالَ أبو محمد رويم بن أحمد البغدادي: (التوحيدُ هو محوُ آثارِ البشريةِ وتجردُ الألوهيةِ)([2]).

قولُه هذا كالأقوالِ السابقةِ، عَرَّفَ التوحيدَ الصوفيَّ بأنَّه يعني وحدةَ الوجودِ، لأنَّ الصوفيَّ بَعْدَ ممارساتِه للعباداتِ الصوفيةِ يتلاشى ويزولُ مِنْ ذاتِه وَصفاتِه البشريةِ، وَعَنْ محيطِه أيضًا - الفناء عن الخلق -.

وهنا يفنى في الحقِّ ويصبحُ هوَ الله، وهنا يصلُ إلى حالةِ التفريدِ والتجريدِ والفردانيةِ؛ بمعنى: لا موجودَ إلَّا الله، فهذا معنى كلامِ رويم الملغزِ على طريقةِ الصوفيةِ في التعبيرِ عَنْ كفريةِ وحدةِ الوجودِ بالإشارةِ لَا بالعبارةِ.

والقولُ الخامس عشر:

ذكرَ أبو سعيد الخراز البغدادي أنَّ العبدَ بعدَ ممارستِه للعباداتِ الصوفيةِ، يترقى في المقاماتِ حتى يُجْلِسَهُ اللهُ (على كرسي التوحيدِ، ثمَّ رفعَ عنه الحُجُبَ فأدخلَه دارَ الفردانيةِ، وكشفَ له عنْ الجلالِ والعظمةِ، فإذا وقعَ بصرُه على الجلالِ والعظمةِ بقيَ بلا هوَ؛ فحينئذٍ صارَ العبدُ فانيًا فوقعَ في حفظِ اللهِ، وبَرِئَ مِنْ دعوى نفسِه)([3]).

قولُه هذا على طريقةِ أخوانِه في التعبيرِ عنْ التوحيدِ الصوفي الذي يعني وحدةَ الوجودِ عندَ الصوفيةِ، ولا يعني التوحيدَ الشرعي، وخلاصةُ زعمِه أنَّ الصوفيَّ عندما يفنى عنْ نفسِه وعنْ الخلقِ يبقى "بلا هو"، يصبحُ هوَ الله، ويستشعرُ الألوهيةَ والفردانيةَ حَسْبَ زعمِه.

والقولُ السادس عشر:

قالَ أحدُ شيوخِ متقدمي الصوفيةِ([4]): (الوحدانيةُ بقاءُ الحقِّ وفناءُ كُلِّ مَا دونه)، و(ليسَ فِي التوحيدِ خَلْقٌ، ومَا وَحَّدَ اللهَ غيرُ اللهِ، والتوحيدُ للحقِّ مِنَ الخَلْقِ طُفيلي)([5]).

وأقولُ: إنَّ كلامَ الصوفي صريحٌ بأنَّ الوحدانيةَ بقاءُ الحقِّ - الله - وفناءُ كُلِّ مَا دونه، وهذا ليسَ توحيدًا شرعيًّا، وإنما هوَ كفرٌ وضلالٌ وهدمٌ للشرعِ والعقلِ والعلمِ، لأنَّ فناءَ كُل مَا دون اللهِ؛ يعني: أنَّه لا موجودَ إلا الله، وهذه هيَ وحدةُ الوجودِ.

وأما القولُ الثاني فهوَ واضحٌ أيضًا أنَّه يقصدُ بالتوحيدِ وحدةَ الوجودِ، وقدْ نفى أنْ يوجدَ معَ اللهِ خَلْقٌ، فلا موجودَ إلَّا الله حَسْبَ زعمِه.

ويعني بقولِه: (ما وَحَّدَ اللهَ غيرُ اللهِ)، أنَّه بما أنْ لا موجودَ إلا الله، فما وَحَّدَ اللهَ إلا اللهُ، فنحنُ حَسْبَ زعمِه عندما نوحدُ اللهَ مجردُ أشباحٍ ورسومٍ ولَا وجودَ حقيقيَّ لنَا.

وعليه؛ فإنَّ الحقيقةَ هي أنَّ اللهَ يوحدُ نفسَه، لا أنَّ مخلوقاتِه توحدُه، لأنَّ هذه المخلوقاتِ حَسْبَ زعمِه ليسَ لها وجودٌ حقيقيٌّ، وهذ الكلامُ الباطلُ سَبَقَ أنْ بيَّنا بطلانَه عندما نقضْنَا كفريةَ وضلالةَ وحدةِ الوجودِ.

كما أنَّه يتضمنُ الطعنَ في التوحيدِ الشرعي بقولِه: (والتوحيدُ للحقِّ مِنَ الخَلْقِ طفيلي)([6])؛ لأنَّه حَسْبَ زعمِه توحيدٌ طفيلي، وَلَا حقيقةَ له.

والقولُ السابع عشر:

ذكرَ السراجُ الطوسي أنَّ للصوفيةِ خصائصَ وحقائقَ اختُصُّوا بها، وعبَّرُوا عنها بالإشاراتِ دونَ العباراتِ، انفردوا بها (في تجريدِ التوحيدِ، وحقيقةِ التوحيدِ)([7]).

وَ(التجريدُ: مَا تَجَرَّدَ للقلوبِ مِنْ شواهد الألوهيةِ إذا صفا مِنْ كُدُورَةِ البشريةِ، والتجريدُ والتفريدُ والتوحيدُ ألفاظٌ مختلفةٌ لمعانٍ متفقةٍ، وتفصيلُها على مقدارِ حقائق الواجدين وَإشارتِهم)([8]).

قولُه هذا اعترافٌ صريحٌ منه بأنَّ للصوفيةِ توحيدًا خاصًّا بهم، ليسَ هوَ التوحيد الشرعي، لأنَّ هذا التوحيدَ ليسَ خاصًّا بهم، وإنما هوَ توحيدُ دينِ الإسلامِ، ومعروفٌ لدى الأمةِ.

مما يعني أنَّه يقصدُ به التوحيدَ الصوفي، وقدْ وصفَهُ بأنَّه يتعلقُ بتجريدِ التوحيدِ، بمعنى تجريد التوحيدِ مِنَ الفَرْقِ، أي نفي إثباتِ المخلوقِ، وإقرارُ الفردانيةِ التي معناها: لا موجودَ إلا الله، وهيَ عقيدةُ وحدةِ الوجودِ، وفيها يصبحُ الصوفيُّ هو اللهَ، ويصيرُ الصوفيةُ أربابًا وآلهةً حَسْبَ اعتقادِهم بوحدةِ الوجودِ!

والقولُ الثامنُ عشر:

قالَ المؤرخُ الصوفي أبو بكر الكلاباذي: (وقالَ بعضُ الكبراءِ: التوحيدُ إفرادُك متوحدًا، وهوَ أنْ لا يُشْهِدُكَ الحَقُّ إياكَ)([9]).

واضحٌ مِنْ كلامِه أنَّ التوحيدَ عندَه هوَ الوصولُ إلى حالةِ وحدةِ الوجودِ، فيكون الصوفي لا يشعرُ ولا يرى إلا واحدًا هو الله، الذي هو الصوفي أيضًا.

لأنَّ الصوفيَّ يكونُ قَدْ تلاشى وزالَ عَنْ نفسِه ومحيطِه، وفني في اللهِ، فأصبحَ هوَ الله حَسْبَ زعمِ الرجلِ، وهنا يصدقُ عليه قولُ الرجلِ: (لَا يُشْهِدُكَ الحَقُّ إياكَ)، فلا يُشْهِدُهُ نفسَه، وإنما يُشْهِدُهُ بأنَّه هو اللهُ.

والقولُ التاسع عشر:

قَالَ أبو طالب المكي: (قالَ بعضُ العارفين: مَنْ صَرَّحَ بالتوحيدِ وَأفشَى سِرَّ الوحدانيةِ؛ فَقَتْلُهُ أفضلُ مِنْ إحياءِ عشرة)([10]).

وأقول: الرجلُ دعا إلى إخفاءِ التوحيدِ الصوفي، وهذا اعترافٌ صريحٌ منه بأنَّ توحيدَ الصوفيةِ مناقضٌ للتوحيدِ الشرعي، وإلَّا لماذا نهى عَنْ إفشائِه، وجعلَ جزاءَ مَنْ يفشيه القتلَ؟!

فهذا ليسَ مِنْ دينِ الإسلامِ؛ لأنَّ التوحيدَ الإسلاميَّ موجهٌ لكلِّ بني آدم، ليعرفَ الناسُ اللهَ تعالى، ويعبدوه بِهِ، إنَّ السببَ واضحٌ، هوَ أنَّ توحيدَ الصوفيةِ هوَ توحيدُ وحدةِ الوجودِ، وليسَ هوَ التوحيد الشرعي.

وتوحيدُهم المزعومُ تواصوا على إخفائِه، وجعلوا إظهارَ حقيقةِ تصوفِهم كفرًا، ليسَ لأنَّه كفرٌ عندهم، وإنما هو كفرٌ في ميزانِ الإسلامِ وعندَ أهلِه، وهذا يُعَرِّضُهم للقتلِ، ولهذا جعلوا مَنْ يظهرُه يستحقُّ القتلَ.

فلوْ كانَ توحيدُهم توحيدًا شرعيًّا ما أخفوه، وما كَفَّرُوا مَنْ يظهرُه، فالتوحيدُ الإسلامي كفرٌ عندَهم، وإظهارُ توحيدِهم بينَ المسلمين هو كفرٌ أيضًا.



الهوامش:

([1]) الرسالة القشيرية، ص(135).

([2]) اللمع، السراج الطوسي، ص(51)، وما بعدها، الرسالة القشيرية، ص(137).

([3]) الطبقات الكبرى، الشعراني، ص(134-135)، والرسالة القشيرية، ص(118).

([4]) هو من متقدمي الصوفية، لكن لم أتعرف عليه، ويبدو أن السراج الطوسي تعمد عدم ذكره، لأن قوله صريح في القول بوحدة الوجود.

([5]) اللمع، السراج الطوسي، ص(52).

([6]) التخريج السابق.

([7]) المصدر السابق، ص(314).

([8]) المصدر السابق، ص(425).

([9]) التعرف لمذهب أهل التصوف، الكلاباذي، ص(135).

([10]) قوت القلوب، أبو طالب المكي، (2/2).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوحيدُ الصوفي (3).doc doc
التوحيدُ الصوفي (3).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى