التوحيدُ الصوفي (2)

التوحيدُ الصوفي (2)






الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...صرَّحَ الصوفيةُ أنَّ التوحيدَ الصوفي هوَ مِنْ غاياتِ التصوفِ وأسرارِه، ولهذا اهتموا بِه كثيرًا، وعبَّرُوا عنه غالبًا بالإشارةِ دونَ العبارةِ، كمَا فعلوا مع قولِهم بالفناءِ في اللهِ الذي وَصَّلَهم إلى الاعتقادِ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، فما تفصيلُ ذلكَ؟ وما هوَ حقيقةُ ذلك السرِّ؟ ولماذا تواصوا بإخفائِه؟ ولماذا قالوا به واعتقدوه؟

ونكمل ما بدأناه في أقوال الصوفية في التوحيد:

القولُ الثامن: قالَ ابنُ عطاء البغدادي: (علامةُ حقيقةِ التوحيدِ نسيانُ التوحيدِ، وهوَ أنْ يكونَ القائمُ بِهِ واحدًا)([1]).

وأقولُ: واضحٌ مِنْ قولِه أنَّ التوحيدَ الحقيقي والمُعْتَبَرَ عندَه هوَ نسيانُ التوحيدِ الشرعي، القائمِ على التفريقِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، وطلبُ التوحيدِ الصوفي الذي يتمُّ بالفناءِ فِي اللهِ، فيصبحَ الصوفيُّ واحدًا وهوَ الله، وهنا ينمحي التعددُ ويبقى التفريدُ، فيكونَ القائمُ بالتوحيدِ واحدًا هوَ المُوَحِّدُ وَالمُوَحَّدُ، وهوَ العَابِدُ والمعبودُ.

وَالقولُ التاسعُ: سُئِلَ أبو بكر الشبلي فقيلَ له: (أَخْبِرْنَا عنْ توحيدٍ مجردٍ وبلسانِ حَقٍّ مُفْرِدٍ، فقالَ: ويحك، مَنْ أجاب عَن التوحيدِ بالعبارةِ فهوَ ملحدٌ، ومنْ أشارَ إليه فهو ثنوي، ومَنْ أومأَ إليه فهو عابدُ وثنٍ، ومنْ نطقَ فيه فهوَ غافلٌ، ومنْ سَكَتَ عنه فهوَ جاهلٌ، ومنْ تَوَهَّمَ أنَّه واصلٌ فليسَ له حاصلٌ، ومَنْ رأى أنَّه قريبٌ فهوَ بعيدٌ، وَمَنْ تواجدَ فهو فاقدٌ، وكُلُّ مَا ميزتموه بأوهامِكم وَأدركتموه بعقولِكم في أتمِّ معانيكم فهو مصروفٌ مردودٌ إليكم، مُحدثٌ مصنوعٌ مثلُكم)([2]).

وأقولُ: إنَّ الشبلي سُئِلَ عنْ التوحيدِ الصوفي لا عن التوحيدِ الشرعي، ولهذا سألوه عن التوحيدِ المجردِ والمفردِ، وهو توحيدُ وحدةِ الوجودِ، فهو توحيدٌ مجردٌ منْ إثباتِ الحوادث - المخلوقات -، ومفرِدٌ للوجودِ، فلا موجودَ إلا الله.

فأجابَ الرجلُ بما يتفقُ مع سؤالِهم، وكُلُّ كلامِه يدورُ حولَ نفي وجودِ مخلوقٍ – الفرق - وإثباتِ التفريدِ – الجمع -، بمعنى أنَّه لا موجودَ على الحقيقةِ إلا الله الذي هو الكون، والكونُ هو اللهُ حَسْبَ زعمِ الصوفيةِ.

فَمِنْ ذلكَ مثلًا قولُه: (مَنْ أجابَ عَنْ التوحيدِ بالعبارةِ فهوَ ملحد)؛ بمعنى: أنَّ مَنْ تكلَّمَ عن التوحيدِ الصوفي بالعباراتِ الواضحةِ وكَشَفَ أنَّه يعني وحدةَ الوجودِ، ولا يعني التوحيدَ الشرعي، فإنَّ صاحبَه ظَهَرَ أنَّه ملحدٌ في ميزانِ الشرعِ ونظرِ المسلمين، وانكشفَ أمرُه لديهم، وملحدٌ أيضًا في نظرِ الصوفيةِ لأنَّه كَشَفَ سرَّهم وعرَّضَهم للسيفِ ولمْ يحفظْ سرَّهم.

وأمَّا باقي قولِه فإنَّ كُلَّ الحالاتِ التي ذكرَها ونفى عنها التوحيدَ الصوفي، فإنَّه نفى عنها ذلكَ لأنه قائمةٌ على إثباتِ الاثنينيةِ لا الفرديةِ، بمعنى إثبات وجودِ كائنين؛ همَا الخالقُ والمخلوقُ، والعابدُ والمعبودُ، وهذا ليسَ توحيدًا صوفيًّا، وإنما هوَ شركٌ عندَ الصوفيةِ، لأنَّ التوحيدَ الصوفي هو: وحدةُ الوجودِ، التي معناها: لا موجدَ إلا الله، وليسَ هوَ التوحيد الشرعي: لا إله إلا الله.

لكنَّ الحالاتِ التي ذكرَها ونفى عنها التوحيدَ الصوفي كلُّها تضمنَتْ التعددَ لا التفريدَ ولا التجريدَ، وهي شواهدُ دامغةٌ على أنَّ الرجلَ كانَ حريصًا على عدمِ تقريرِ التوحيدِ الإسلامي مِنْ جهةٍ؛ وعلى تقريرِ التوحيدِ الصوفي بالاستدلالِ العكسي منْ جهةٍ أخرى.

القولُ العاشر: قالَ الشبلي لرجلٍ: (أتدري لِمَ لا يَصِح توحيدُك؟ فقالَ: لا!! فقالَ: لأنَّكَ تَطْلُبُهُ بِكَ).

وأقولُ: قولُه هذا يتضمنُ إنكارَ التوحيدِ الإسلامي والطعنَ فيه مِنْ جهةٍ، والاعتقادَ بالتوحيدِ الصوفي - وحدة الوجود - والدعوةِ إليه منْ جهةٍ أخرى.

لأنَّ قولَ: (لأنَّكَ تَطْلُبُهُ بِكَ)؛ يعني: أنَّ العابدَ يَطْلُبُ اللهَ وهوَ مُعْتَقِدٌ للتوحيدِ الإسلامي القائمِ على التفريقِ بينَ العبدِ واللهِ، وبينَ الخالِقِ والمخلوقِ، وبينَ الطالِبِ والمطلوبِ، وبينَ العابدِ والمعبودِ، وهذا الاعتقادُ عندَ الشبلي ليسَ توحيدًا صحيحًا، وإنما التوحيدُ الصحيحُ عنده هوَ التوحيدُ الصوفي -توحيد الفناءِ في اللهِ -، ويتحققُ عندما يطلبُ العابدُ اللهَ باللهِ، ولا يطلبُه بنفسِه، بمعنى عندما يطلبُه بنفي ذاتِه، وهنا يطلبُ اللهَ باللهِ، وفيها يصبحُ الصوفيُّ هوَ اللهَ حَسْبَ زعمِ الصوفيةِ، ويكونُ وصلَ إلى وحدةِ الوجودِ.

القولُ الحادي عشر: قالَ الشبلي: (التوحيدُ: إسقاطُ الياءاتِ؛ لا تقول: لي وبي ومني وإليَّ)؛ بمعنى: على الموحِد أنْ يَحِدَّ إثبات ذاتِه، فيُسْقِطَ الياءاتِ ويجدحُها بسرِّه وإنْ كانتْ جاريةً رسمًا بلسانِه([3]).

وأقولُ: قولُه هذا يشبِهُ قولَه السابقَ، ويتضمنُ نفيَ التوحيدِ الإسلامي - لا إله إلا الله -، وتقريرَ التوحيدِ الصوفي - لا موجودَ إلا الله -، والذي يعني وحدةَ الوجودِ؛ لأنَّ الذي يستخدمُ ياءات المُتَكَلِّمِ: لي، بي، مني، إليَّ، هو عندَ الشبلي يكونُ قَدْ أثبتَ الاثنينيةَ بإثباتِ نفسِه، ولمْ يُثبِتْ الفردانيةَ بنفي ذاتِه، وَمَنْ يُثْبِتُ نفسَه فهو ليسَ موحدًا، وإنما هو مشركٌ حَسْبَ عقيدةِ وحدةِ الوجودِ، وليكونَ موحدًا يجبُ عليه أنْ ينفيَها.

وأشيرُ هنا إلى أنَّ أقوالَ الشبلي تشهدُ عليه بأنَّه كانَ يعتقدُ بوحدةِ الوجودِ، وأنَّه لا يختلفُ عنْ الحسينِ الحلاج، إلَّا في أنَّهُ كتمَ عقيدتَه وعبَّرَ عنها بالإشاراتِ، والحلاجُ كشفَ عنْ عقيدتِه في وحدةِ الوجودِ بالكلامِ الواضحِ، وتلكَ الأقوالُ هي شواهدُ قويةٌ على صحةِ ما رُوي عنْ الشبلي بأنَّه قالَ: (كنتُ أنا والحسينُ بن منصور شيئًا واحدًا إلَّا أنَّه أَظْهَرَ وَكَتَمْتُ)([4]).

والشاهدُ على ذلكَ أيضًا قولُ الحلاج الصريحُ في تقريرِ التوحيدِ الصوفي، والذي يعني وحدةَ الوجودِ، فقالَ:

أنَا أَنتَ بِلَا شَكٍّ                          سُبْحَانَ سُبْحَانِي

تَوْحِيدُكَ تَوْحِيدِي               وَعِصْيَانُكَ عِصْيَانِي([5])

القولُ الثاني عشر: قالَ عبدُ اللهِ يحيى بن الجلاء: (وَمَنْ رأى الأفعالَ كُلَّها مِنَ اللهِ فهوَ موحدٌ لا يرى إلَّا واحدًا)([6]).

وأقولُ:

أولًا: قولُه هذا يقررُ التوحيدَ الصوفيَّ لا الشرعيَّ، ويتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّ معنى كلامِه أنَّ مَنْ يرى الكونَ وما فيه مِنْ مخلوقاتٍ وحركاتٍ كُلَّها مِنَ اللهِ، بمعنى أنها مِنْ أفعالِ اللهِ، وليستْ هيَ مِنْ مخلوقاتِه، وأفعالُها ليستْ مِنْ ذاتِها، وإنما الكُلُّ مِنْ أفعالِ اللهِ، فمنْ يعتقدُ هذا فهو الموحدُ، ولا يرى إلا واحدًا؛ لأنَّه - حَسْبَ زعمِه - إذْ كَانَ الكونُ ومَا فيه هوَ مِنْ أفعالِ اللهِ وليسَ مخلوقًا له، فيعني أنَّ الكونَ هو اللهُ، ولا يرى إلا اللهَ.

ثانيًا: وقولُه هذا يبينُ التوحيدَ الصوفي الذي يعني وحدةَ الوجودِ مِنْ جهةٍ، ويشهدُ على أنَّ ذلكَ التوحيدَ مخالِفٌ للتوحيدِ الإسلامي مِنْ جهةٍ أخرى، وهو بلا شك كلامٌ باطلٌ شرعًا وَوَاقِعًا وَعِلْمًا.

فأمَّا شرعًا فإنَّ الموحدَ في شريعةِ الإسلامِ ليسَ هو الذي يقولُ بقولِ ذلكَ الصوفي، وإنما هوَ الذي يوحدُ ربَّهُ التوحيدَ الشرعي كما بيَّناه سابقًا؛ قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

فالتوحيدُ الشرعيُّ لا ينفي المخلوقَ، ولا الخالقَ، وإنما يعترفُ بكُلِّ واحدٍ بحقيقتِه وذاتيتِه، ويجعلُ المخلوقَ في طاعةِ خالقِه وِفْقَ شريعةِ اللهِ تعالى.

وأمَّا وَاقِعًا وَعِلمًا، فَمِنَ الثابتِ بالمشاهدةِ والممارسةِ أنَّ كائناتِ العالمِ الذي نعيشُ فيه هيَ مخلوقاتٌ لخالِقٍ، وليستْ هيَ الخالقُ؛ ومنْ ثَمَّ فأفعالُها هيَ مِنْ ذواتِها وليستْ أفعالًا للهِ، وهذا يعني أنَّ تلكَ المخلوقاتِ ليستْ هيَ الله، وإنما هيَ مِنْ مخلوقاتِه، وبهذا يسقطُ كلامُه مِنْ أساسِه.

 

الهوامش:

([1]) الرسالة القشيرية، ص(137).

([2]) اللمع، السراج الطوسي، ص(5) وما بعدها، والرسالة القشيرية، ص(136).

([3]) اللمع، السراج الطوسي، ص(54)، والرسالة القشيرية، ص(137).

([4]) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، (8/121).

([5]) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، ابن عجيبة، ص(122).

([6]) الرسالة القشيرية، (1/84).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوحيدُ الصوفي (2).doc doc
التوحيدُ الصوفي (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى