التوحيدُ الصوفي

التوحيدُ الصوفي






الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...صرَّحَ الصوفيةُ أنَّ التوحيدَ الصوفي هوَ مِنْ غاياتِ التصوفِ وأسرارِه، ولهذا اهتموا بِه كثيرًا، وعبَّرُوا عنه غالبًا بالإشارةِ دونَ العبارةِ، كمَا فعلوا مع قولِهم بالفناءِ في اللهِ الذي وَصَّلَهم إلى الاعتقادِ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، فما تفصيلُ ذلكَ؟ وما هوَ حقيقةُ ذلك السرِّ؟ ولماذا تواصوا بإخفائِه؟ ولماذا قالوا به واعتقدوه؟

فمِنْ أقوالِهم المتعلقةِ بتوحيدِهم:

القولُ الأول: عنْ أبي يزيد البسطامي أنَّه قالَ: (صِرْتُ مرَّةً إلى مكةَ، فرأيتُ البيتَ مفردًا، فقلتُ: حجي غيرُ مقبولٍ لأني رأيتُ أحجارًا كثيرةً منْ هذا الجنسِ، وذهبتُ مرةً أخرى فرأيتُ البيتَ وربَّ البيتِ، قلتُ: لا حقيقةَ التوحيدِ بعد، وذهبتُ مرةً ثالثةً فرأيتُ الكلَّ ربَّ البيتِ، ولا بيتَ، فنوديتُ في سري: يا أبا يزيد، إذا لم تَرَ نفسَك ورأيتَ العالَم كلَّه لما كنتَ مشركًا، وإذا رأيتَ لَمْ ترَ العالمَ كلَّه ورأيتَ نفسَك كُنتَ مشركًا، عندئذٍ تُبْتَ، وتُبْتَ أيضًا عنْ رؤيةِ وجودِي)([1]).

وأقولُ:

أولًا: قبلَ التعليقِ على البسطامي يجبُ التذكيرُ وبيانُ معنى التوحيدِ في الإسلامِ، التوحيدُ الشرعي مجملًا هوَ توحيدٌ واحدٌ: لا رَبَّ ولا إلَه إلَّا الله، ومُفَصَّلًا هوَ ثلاثةُ أنواعٍ:

(1) - توحيدُ الربوبيةِ: فلا رَبَّ وَلا خالقَ إلا الله تعالى، وهذا التوحيدُ مُعْظَمُ البشرِ يُقِرُّون بِه؛ لقولِه سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، وقولِه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

(2) - توحيدُ الألوهيةِ: وهوَ إفرادُ اللهِ تعالى بالألوهيةِ والعبادةِ حُبًّا وطاعةً وخشيةً وإخلاصًا والتزامًا بشريعتِه؛ لأنَّه سبحانه لَمْ يخلقْنا إلا لذلك؛ لقولِه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقولِه تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقولِه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].

(3) - توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ: فاللهُ تعالى أثبتَ لنفسِه أسماء وصفاتٍ يجبُ إثباتُها له وتوحيدُه وإفرادُه بها، بلا تشبيهٍ ولا تجسيمٍ، ولا تكييفٍ ولا تأويلٍ، وإنما هوَ إثباتٌ وتنزيهٌ؛ قَالَ سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، وقالَ سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ثانيًا: واضحٌ مِنْ قولِ البسطامي أنَّ التوحيدَ الذي انتهى إليه وأقرَّهُ وآمَنَ به هوَ توحيدُ وحدةِ الوجودِ: "لا موجودَ إلَّا الله"، وليسَ التوحيد الشرعي: "لا إلَه إلَّا الله، واللهُ خالقُ كُلِّ شيءٍ".

والشركُ عندَ البسطامي هوَ المخلوقات، وهذا مخالفٌ لمعنى الشركِ في الإسلامِ؛ لأنَّ إثباتَ مخلوقاتٍ معَ اللهِ تعالى ليسَ شركًا، ولا ينقضُ التوحيدَ؛ لأنَّ الشركَ هوَ أنْ تجعلَ معَ اللهِ ندًّا وشريكًا، وليسَ أنْ تُثْبِتَ معه موجودًا آخر هوَ مِنْ مخلوقاتِه، وعليه؛ فإنَّ التوحيدَ في الإسلامِ هوَ شركٌ عند البسطامي وأمثالِه، وتوحيدُ الصوفيةِ هوَ كفرٌ في دينِ الإسلامِ.

وبما أنَّه سبقَ أنْ ناقشنا الصوفيةَ في أقوالِهم واعتقادِهم بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، وبيَّنَّا فسادَها وبطلانَها شرعًا وعقلًا وعِلمًا، فإننا هنا لا نعيدُ مناقشتَها ونقضَها، وإنما نبينُ أساسًا العلاقةَ بينَ التوحيدِ الصوفي ووحدةِ الوجودِ مِنْ جهةٍ، ونشيرُ إلى مخالفةِ التوحيدِ الصوفي للتوحيدِ الشرعي مِنْ جهةٍ أخرى.

القولُ الثاني: قالَ أبو يزيد البسطامي: (صحبتُ أبا علي السندي فكنتُ أُلَقِّنُه ما يقيمُ بِه فرضَه، وكانَ يُعَلِّمُنِي التوحيدَ والحقائقَ صرفًا)، وفي روايةٍ أخرى قالَ: (أنا أتعلمُ مِنَ الفناءِ في التوحيدِ وهو يقرأُ عندي الحمدَ)([2]).

وأقولُ: واضحٌ مِنْ كلامِ البسطامي أنَّه لم يتعلمْ مِنْ صاحبِه علي السندي - الهندي - التوحيدَ الإسلامي؛ لأنَّ هذا التوحيدَ يَعْرِفُهُ البسطامي، وهوَ بينَ يديه في الكتابِ والسنةِ، وإنما صاحبُه هو الذي لمْ يكنْ يعرفُ العباداتِ الشرعيةَ؛ لأنَّه كانَ حديثَ عهدٍ بالإسلامِ، فلمْ يكنْ يعرفُ حتى كيفَ يصلي فكانَ البسطامي يُعَلِّمُهُ ذلك.

فماذا تعلَّم هو منه؟ لا شكَّ أنَّه لمْ يتعلمْ مِنَ التوحيدِ الإسلامي، وإنما تعلمَ منه توحيدًا آخرَ اعترفَ به البسطامي بقولِه: (أنا أتعلمُ منه الفناءَ في التوحيدِ).

وبما أنَّه سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا معنى الفناء في اللهِ عندَ الصوفيةِ، فهذا يعني أنَّ البسطامي تعلَّمَ مِنَ الهندي عقيدةَ وحدةِ الوجودِ، التي سماها: الفناء في التوحيدِ، وتعني: أنَّ الله هو الكونُ والكونَ هوَ اللهُ، بمعنى لا موجودَ إلا الله، وهذه العقيدةُ سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا أنها كانتْ منتشرةً بينَ ربهانِ البوذيين والنصارى، فالتوحيدُ عند أبي يزيد البسطامي يعني وحدةَ الوجودِ، لا موجودَ إلا الله، وَلا يعني: لا إله إلا الله.

القولُ الثالث: قالَ الجنيد: (التوحيدُ معنى تَضمحِلُّ فيه الرسومُ وتندرجُ فيه العلومُ، ويكونُ اللهُ كمَا لمْ يَزَلْ)([3])، وهذا التوحيدُ وَصَفَهُ ابنُ عجيبة بقولِه: (هذا هوَ التوحيدُ الخاصُّ، أعني: توحيد أهلِ الشهودِ والعيانِ)([4]).

والقولُ الرابع: سُئِلَ الجنيدُ عنْ توحيدِ الخاصِّ؛ فقالَ: (أَنْ يكونَ العبدُ شَبَحًا بينَ يدي اللهِ سبحانه، تجري عليه تصاريفُ تدبيرِه في مجاري أحكامِ قدرتِه، في لُجَجِ بحارِ توحيدِه، بالفناءِ عنْ نفسِه وعنْ دعوةِ الخَلْقِ له، وعنْ استجابتِه بحقائقَ وجودِه ووحدانيتِه، في حقيقةِ قربِه بذهابِ حُسْنِهِ وحركتِه، ليقامَ الحق سبحانه له فيما أرادَ منه، وهوَ أنْ يرجعَ آخرُ العبدِ إلى أولِه، فيكون كما كانَ قَبْلَ أنْ يكونَ)([5]).

والقولُ الخامس: عنْ الجنيد أنَّه قالَ: التوحيدُ (هو الخروجُ مِنْ ضيقِ رسومِ الزَمَانِيَّةِ إلى سَعَةِ فناءِ السرمديةِ)([6]).

وأقولُ: واضحٌ مِنْ أقوالِ الجنيد أنَّ التوحيدَ المُعْتَبرَ عندَه هوَ توحيدُ الخاصِّ، وغايتُه التحققُ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، يتحققُ بنفسِ الطريقةِ التي يتحققُ بها الفناءُ في اللهِ، بَلْ هما اسمان لمعنى واحدٍ، فيتحققُ التوحيدُ الصوفيُّ - حَسْبَ الجنيد - بتلاشي وزوالِ العبدِ عنْ صفاتِه وذاتِه ومحيطِه، ليفنى في اللهِ فيصبحَ هوَ اللهَ، والكونُ هوَ اللهَ، فلا وجودَ إلا لموجودٍ واحدٍ هوَ الله، الذي هو نفسُه الصوفي والكونُ أيضًا.

وهذا الذي قَرَّرَهُ الصوفي ابنُ عجيبة في شرحِه لقولِ الجنيد، بحيثُ لا يرى في الوجودِ إلا اللهَ، فهذا التوحيدُ الصوفي الذي يعني وحدةَ الوجودِ، ولا يعني التوحيدَ الشرعيَّ مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ، وإنْ تَسَمَّى باسمِه تسترًا بالإسلامِ وتلبيسًا على المسلمين.

القولُ السادسُ: قالَ المؤرخُ عبدُ الوهابِ الشعراني عنْ الجنيد: (وَكانَ الجنيدُ - رضيَ اللهُ عنه - لا يتكلمُ قطْ في علمِ التوحيدِ إلَّا في قعرِ بيتِه، بَعْدَ أنْ يُغْلِقَ أبوابَ دارِه، ويأخذَ مفاتيحَها تحتَ وركِه، ويقولُ: "أتحبونَ أَنْ يُكَذِّبَ الناسُ أولياءَ اللهِ وخاصتَه، ويرمونَهم بالزندقةِ والكفرِ"، وكانَ سببُ فعلِه ذلكَ تكلمَهم فيه كمَا سيأتي آخرَ هذه المقدمةِ، فكانَ بعدَ ذلكَ يستترُ بالفقهِ إلى أَنْ ماتِ)([7]).

القولُ السابع: يقولُ الجنيد: (لا ينبغي للفقيرِ قراءةُ كُتُبِ التوحيدِ الخاصِّ، إلَّا بينَ المُصَدِّقِين لأهلِ الطريقِ أوْ المسلمين لهم)([8]).

وأقول: لماذا أخفى الجنيدُ حالَه وتوحيدَه؟! ولماذا تكلَّمَ فيه الناسُ؟! ولماذا حَثَّ أصحابَه على إخفاءِ توحيدِ الصوفيةِ؟! وما هوَ التوحيدُ الذي تكلَّمَ فيه وأخفاهُ عنْ المسلمين؟!

لوْ كانَ توحيدًا شرعيًّا ما أخفاه منْ دونِ شَكٍّ، ولتكلمَ به أمامَهُمْ، كمَا كانَ يتكلمُ بالفقهِ الذي يتسترُ بِهِ، وهذا شاهدٌ دامغٌ على أنَّ التوحيدَ المزعومَ هو توحيدُ الكفرِ والزندقةِ، وهوَ وِحدةُ الوجودِ - توحيد الفناء -: "لا موجودَ إلا الله"، وليس: "لا إله إلا الله، ولا خالقَ سواه".

والجنيدُ نفسُه اعترفَ أنَّ التوحيدَ الذي كانَ يخفيه هوَ كفرٌ وزندقةٌ عندَ المسلمين، وأنَّ للصوفيةِ توحيدًا خاصًّا بهم؛ لهذا كانَ يخفيهِ عَنْ الناسِ، وحَثَّ أصحابَه على إخفائِه!!

وشتان بينَ التوحيدين، الصوفي والإسلامي، وما يترتبُ عنهما مِنْ نتائج، فالتوحيدُ الصوفي يترتبُ عنه كفرٌ باللهِ وأنبيائِه وكُتُبِه ومخلوقاتِه ، ويصبحُ الكونُ هو اللهَ، واللهُ هو الكونَ، لكنَّ التوحيدَ الشرعي على النقيضِ مِنْ ذلكَ تمامًا، فهوَ يثبتُ وجودَ الخالقِ والمخلوقِ، ويُوَحِّدُ اللهَ تعالى، وينفي النِّدَّ وَالشريكَ له سبحانه، ويثبتُ أيضًا النبوةَ والشرائعَ والمعادَ الأخروي.

 

الهوامش

([1]) الرسالة القشيرية، (1/171)، وكشف المحجوب، الهجويري، ص(319).

([2]) اللمع، السراج الطوسي، ص(235)، عقيدة الصوفية: وحدة الوجود الخفية، أحمد عبد العزيز القصير، ص(110).

([3]) اللمع، السراج الطوسي، ص(49).

([4]) البحر المديد، ابن عجيبة، (1/200).

([5]) اللمع، السراج الطوسي، ص(49)، والرسالة القشيرية، ص(136).

([6]) اللمع، السراج الطوسي، ص(49).

([7]) الطبقات الكبرى، الشعراني، ص(15).

([8]) الطبقات الكبرى، الشعراني، ص(277).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوحيدُ الصوفي.doc doc
التوحيدُ الصوفي.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى