أقوال صوفية القرن السابع الهجري في وحدة الوجود
الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...وأما المجموعةُ السادسةُ: فتتضمنُ أقوالًا لجماعةٍ مِنَ الصوفيةِ مِنَ القرنِ السابعِ الهجري وما بعده، صَرَّحَتْ بوحدةِ الوجودِ بوضوحٍ.
أولها: قولٌ لعبدِ السلامِ بن مشيش المغربي: (اللهُمَّ زُجَّ بي في بحارِ الأحدية، وانشلني منْ أوحالِ التوحيدِ، وأغرِقْنِي في عينِ بحرِ الوحدةِ؛ حتى لا أرى وَلَا أسمعَ وَلا أُحِسَّ إلَّا بها)([1]).
وأقولُ: واضحٌ منْ كلامِ الرجلِ أنَّه يعتقدُ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، وقدْ دعا اللهَ أنْ يُغْرِقَه فيها وينشلَه مِنْ أوحالِ التوحيدِ على حدِّ تعبيرِه، وهو هنا يقصدُ توحيدَ دينِ الإسلامِ، فدعا اللهَ لينقلَه منه إلى توحيدِ الصوفيةِ، الذي هوَ ضلالةُ وحدةِ الوجودِ، إنَّه فَضَّلَ الانتقالَ منْ توحيدِ الإيمانِ ودينِ الإسلامِ إلى توحيدِ الكفرِ والزندقةِ وعبادةِ الشيطان!!
والقولُ الثاني: لمحيي بن عربي الطائي الأندلسي، عَرَّفَ العارفَ بقولِه: (إِنَّ العارفَ مَنْ يرى الحقَّ في كُلِّ شيءٍ، بلْ يراه عينِ كُلِّ شيءٍ)([2]).
وقولُه هذا صريحٌ بأنَّ الرجلَ يعتقدُ بوحدةِ الوجودِ، فالكونُ كأنَّه هوَ الله، وَاللهُ هو الكونُ حَسْبَ زعمِه، وقولُه هذا مخالفٌ للشرعِ والعقلِ والعِلْمِ، بلْ وكفرٌ صريحٌ بدينِ الإسلامِ.
والقولُ الثالثُ: لأبي الحسن الشاذلي، أوصى المريدَ الصوفيَّ بقولِه: (إِذَا أَرَدتَ الوصولَ إلى الطريقِ التي لا لونَ فيها، فليكُنْ الفَرْقُ في لسانِك موجودًا، والجمعُ في سِرِّكَ مشهودًا)([3]).
واضحٌ مِنْ كلامِه أنَّه كانَ يعتقدُ بوحدةِ الوجودِ، وأوصى المريدَ بأنْ يُظْهِرَ على لسانِه - تقيةً وتسترًا بالإسلامِ وخداعًا للمسلمين - الفرقَ، بمعنى أنْ يُفَرِّقَ بينَ اللهِ ومخلوقاتِه اتِّبَاعًا للشرعِ، وأنْ يخفيَ اعتقادَه بوحدةِ الوجودِ – الجمع - ويجعلَه سِرًّا قلبيًّا مشهودًا، فالرجلُ يَحُثُّ أصحابَه على التظاهرِ بالإسلامِ، وإخفاءِ قولِهم وإيمانِهم بكفريةِ وحدةِ الوجودِ.
القولُ الرابعُ: لعلي الششتري النميري الأندلسي ثم المصري، أنشدَ قائلًا:
محبوبِي قُـدْ عَمَّ الوجودَ وَقَدْ ظَهَرَ في بيضٍ وَسود
وَفِي النصارى مع اليهودِ وفي الخنازيرَ مع القرودِ
وفِي الحروفِ مع النقطِ أفهمني قط أفهمني قط([4])
وأقولُ: هذا الرجلُ الضالُّ والمريضُ صَرَّحَ بأنَّه يعتقدُ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، فَحَسْبَ زعمِه أنَّ اللهَ هو الكونُ، وقدْ ظهرتْ رسومُه وظلالُه وأشكالُه في مُخْتَلَفِ مظاهرَ الطبيعةِ منها اللغةُ والبشرُ.
والقولُ الخامسُ: لابنِ عطاءِ اللهِ السكندري، كَرَّرَ مقولةَ سلفِه بقولِه: (فَما سوى اللهِ عندَ أهلِ المعرفةِ لا يَتَّصفُ بوجودٍ ولا بِفَقْدٍ؛ إذْ لا يوجدُ غيرُه معه؛ لثبوتِ أَحَدِيَّتِهِ، ولا فَقْدَ لغيرِهِ؛ لأنَّه لا يُفْقَدُ إلَّا ما وُجِدَ، ولوْ انْتُهِكَ حجابُ الوهمِ لوقعَ العيانُ على فَقْدِ الأعيانِ، وَلأشرقَ نورُ الإيقانِ فغطَّى وجودَ الأكوانِ)([5]).
وأقولُ: واضحٌ مِنْ كلامِه أنَّه يعتقدُ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، ولا يختلفُ عَنْ كلامِ الغزالي والسابقين له، فزَعَمَ أنَّ اللهَ هو الموجودُ حقيقةً وما سواه باطلٌ؛ لأنه مجردُ أشباحٍ ورسوم ليسَ لها وجودٌ حقيقيٌّ، وزعمَ أنَّه لو رُفِعَ الحجابُ لتمَّ التأكدُ مِنْ زعمِه.
وقولُه هذا باطلٌ ومردودٌ عليه؛ لأنَّه مخالفٌ للشرعِ والعقلِ والواقعِ والعلمِ كمَا سَنُفَصِّلُه لاحقًا، وهو تعليقٌ بأوهامٍ وخرافات لا دليلَ على وجودِها، ولا يصحُّ تركُ الواقعِ اليقيني والتعلقُ بأوهامٍ وأباطيل مِنْ هلوساتِ وتلبيساتِ النفوسِ وَالشياطين.
القولُ السادس: لعلي بن محمد وفا السكندري المصري الشاذلي المالكي، عَقَّبَ بِه على قولِ أبي يزيد البسطامي، عندما حكى عنْ نفسِه أنَّه حَجَّ فرأى البيتَ دونَ رَبِّ البيتِ، ثُمَّ في النهايةِ رأى رَبَّ البيتِ دونَ البيتِ، فَعقَّبَ عليه بقولِه: (لوْ أنَّ أبا يزيد عرفَ الحقيقةَ حقَّ معرفتِها لأنزلَ كُلَّ شيءٍ منزلتَه، ولمْ يَغِبْ عنه أنَّ الكُلَّ واحدُ إذا رأى العددَ، وَلا غابَ عنه العددُ إذا رأى الواحدَ، فَافْهَمْ)([6]).
وأقولُ: قولُه هذا صريحٌ في القولِ بضلالةِ وحدةِ الوجودِ، فَقَرَّرَ أَنَّ رؤيةَ العددِ – الفرق - لا تنفي الكُلَّ – الجمع -؛ لأنَّ ذلكَ العددَ هوَ رسومٌ وأشباحٌ للكُلِّ، وهوَ اللهُ، كمَا أنَّ رؤيةَ الواحدِ –الكُل أو الجمع - لا تنافي العددَ – الفرق -، الذي هوَ رسومٌ وأشباحٌ دالَّةٌ على الكُلِّ الذي هوَ الله.
فالرجلُ قَرَّرَ هنا خرافةَ وَكفريةَ وحدةِ الوجودِ التي يؤمنُ بها الصوفيةُ، وانتقدَ البسطامي بأنَّه لمْ يَنْتَبِه في أولِ أمرِه إلى الفَرْقِ والجَمْعِ عندما ذهبَ إلى الحجِّ، ولمْ تَكُنْ تجربتُه الصوفيةُ قَدْ اكتملتْ حَسْبَ زعمِ الرجلِ.
والقولُ السابعُ: لأحمد بن عجيبة المغربي، ومفادُه: (التحقيقُ ما قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّعَلُّقَ بأوصافِ الربوبيةِ يكونُ في الباطنِ، والتحققُ بأوصافِ العبوديةِ يكونُ في الظاهر)([7]).
وقولُه هذا يتضمنُ الاعتقادَ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، ومعنى كلامِه أنَّه على الصوفي أنْ يعتقدَ بداخلِه أنَّه إلهٌ وَرَبٌّ، لكنَّه يتظاهرُ أمامَ الناسِ بأنَّه عبدٌ للهِ بإظهارِ التزامِه بالشرعِ على أنَّه عبدُ اللهِ.
وبمعنى آخر؛ إنَّ ابنَ عجيبة يوصي الصوفيَّ بأنْ يعتقدَ بوحدةِ الوجودِ، لكنَّه يتظاهرُ بأنَّه مخلوقٌ وعابدٌ للهِ، معْ أنَّه في الحقيقةِ هوَ اللهُ حَسْبَ زعِمه، نَصَحَهُ بذلكَ ممارسةً للتقيةِ؛ لإخفاءِ وحدةِ الوجودِ عنْ المسلمين، وَإظهارِ ما يتفقُ مع الشرعِ تضليلًا وتلبيسًا عليهم، وانتصارًا وتأييدًا للتصوفِ.
والقولُ الأخيرُ – الثامن -: هوَ أيضًا لابنِ عجيبة، وَصَفَ فيه عبادةَ الصوفيةَ المحبين العارفين بأنَّ عبادتَهم تَتِمُّ: (باللهِ للهِ، وَمِن اللهِ إلى اللهِ ...)([8]).
وأقولُ: قولُه هذا يتضمنُ اعتقادَ الرجلِ بضلالةِ وخرافةِ وحدةِ الوجودِ؛ بدليلِ مَا يأتي:
إنَّه مِن الثابتِ قطعًا أنَّه لا توجدُ في دينِ الإسلامِ عبادةٌ تَتِمُّ باللهِ وللهِ، ولا منه وإليه؛ وإنما العبادةُ الشرعيةُ تَتِمُّ مِنَ العبدِ للهِ تعالى؛ لقولِه سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقولِه تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
ولا يصحُّ تفسيرُ ذلكَ بأنَّ العبادةَ تَتِمُّ بتوفيقٍ مِنَ اللهِ، فهذا أمرٌ عامٌّ يشملُ كُلَّ المسلمين وليسَ خاصًّا بالصوفيةِ، ولا يجعلُ العبادةَ تَتِمُّ باللهِ وللهِ، وتبقى قائمةً بينَ العبدِ وَرَبِّهِ، وبما أنَّ الأمرَ كذلكَ؛ فإنَّ مقصودَ الرجلِ أنَّ الصوفيَّ العارفَ بعدما يمارسُ العباداتِ الصوفيةَ يتلاشى ويزولُ عَنْ نفسِه وعنْ الخلقِ، ويفنى في اللهِ ويبدأُ في استشعارِ الربوبيةِ تدريجيًّا؛ فيفنى في أفعالِه أولًا، ثُمَّ فِي صفاتِه ثانيًا، ثُمَّ في ذاتِه ثالثًا، وهنا يصبحُ رَبًّا.
وبهذا يكونُ العارفُ قَدْ عَبَدَ اللهَ باللهِ، وَمِنَ اللهِ إلى اللهِ، بمعنى أنَّ اللهَ عَبَدَ نَفْسَه، فكانتْ منه إليه، حَسْبَ زَعْمِ ابنِ عجيبة وأمثالِه!!
علمًا بأنَّ مرتبةَ المحبين للهِ لا تَتِمُّ عبادتُهم له كَمَا زَعَمَ هذا الرجلُ، وإنما تَتِمُّ باتباعِ شريعةِ الإسلامِ قلبًا وقالبًا؛ قَالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وَقَالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ولهذا؛ فإنَّ تلكَ العبادةَ التِي مدحَها ابنُ عجيبة وَجعلَها منْ عباداتِ كبارِ الصوفيةِ، هِي فِي الحقيقةِ لا تخرجُ عَنْ عبادةِ الصوفيةِ لأهوائِهم وشياطينِهم؛ لأنَّ مَنْ لا يلتزمُ بعبداةِ اللهِ وِفْقَ شريعتِه فهوَ بالضرورةِ يعبدُ هواه وشيطانَه.
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.