الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعْد ... وَأمَّا المجموعةُ الرابعةُ: فتتضمنُ أقولًا لأبي يزيد البسطامي، قالَ فيها بوحدةِ الوجودِ تصريحًا أو تلميحًا.
أولُها: قالَ أبو يزيد: (للخلقِ أحوالٌ، وَلا حالَ للعارفِ، لأنَّه مُحيتْ رسومُه، فنيتْ هويتُه بهويةِ غيرِه، وغابتْ آثارُه بآثارِ غيرِه)([1]).
وَقولُه هذا مضمونُه القولُ بوحدةِ الوجودِ، ومفادُه أنَّ الصوفيَّ الذي وصلَ مقامَ المعرفةِ الصوفيةِ لا حالَ له كباقي الخلقِ؛ لأنَّ صفاتَه وَرسومَه البشريةَ تلاشتْ وزالتْ بممارستِه للعباداتِ الصوفيةِ، وبها فنى عنْ ذاتِه وَمحيطِه، وَفنى فيِ اللهِ، فزالتْ هويتُه بهويةِ اللهِ، وَهنا أصبحَ هوَ اللهَ، حَسْبَ زعمِ البسطامي.
وَالقولُ الثاني: سُئِلَ البسطامي عنْ صفةِ العارفِ، فقالَ: (إِنَّ لونَ الماءِ مِنْ لونِ إنائِه، إنْ صببتَه فِي إناءٍ أبيض خِلْتَه أبيض، وَإِنْ صببتَه في إناءٍ أسود خِلْتَه أسود، وَكذلكَ الأصفر وَالأحمر ... تتداولُه الأحوالُ، وولي الأحوالِ وَليُّهُ)([2]).
وَمعنى كلامِه: أنَّه كما أنَّ الماءَ يأخذُ لونَ إنائِه، فكذلكَ الصوفي العارفُ الذي انمحتْ رسومُه وَصفاتُه البشريةُ فتلاشى بها عنْ نفسِه وَمحيطِه، وَفنى بها فِي اللهِ، فإنَّه يأخذُ صفات اللهِ، فيستشعرُ الربوبيةَ وَيصبحُ هوَ اللهَ، حَسْبَ زعمِه، وهذا قولٌ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ.
وَالقولُ الثالثُ: قَالَ أبو يزيد: (انْسَلَخْتُ مِنْ نفسِي كمَا تنسلخُ الحيةُ مِنْ جلدِها، فنظرتُ فإذا أنا هوَ)([3]).
وَقولُه هذا يحملُ الاعتقادَ بضلالةِ وحدةِ الوجودِ، عبَّرَ عنها بكلامٍ يكادُ يكونُ صريحًا، فهوَ بعدما مارسَ الطريقَ الصوفي - كما بيَّناه سابقًا - تلاشتْ صفاتُه وَرسومُه البشريةُ، فانمحى عنْ ذاتِه وَعَن الخلقِ وَفنى فِي الحقِّ، فوجدَ نفسَه أنَّه هوَ الله، حسبَ زعمِه.
وَالقولُ الرابعُ: قولُ أبو يزيد البسطامي: (عجبتُ لمنْ عَرَفَ اللهَ كيفَ يعبدُه!!)([4]).
وَقولُه هذا مضمونُه القول بوحدةِ الوجودِ، فبما أنَّ الصوفيَّ عندما يصبحُ عارفًا يكونُ قدْ تلاشى وَانمحى عنْ نفسِه وَمحيطِه، وَفنى في الحقِّ، وَاستشعرَ الألوهيةَ وَأصبحَ هوَ اللهَ، فَمِنَ الطبيعي أنَّه لا يعبدُ اللهَ، فكيفَ وَلماذا يعبدُ اللهَ وهوَ اللهُ حَسْبَ زعمِه؟!
فاللهُ لا يعبدُ نفسَه، وَإنما العبدُ هوَ الذي يعبدُ اللهَ، بما أنَّ البسطامي زعمَ أنَّه أصبحَ ربًّا، فتعجبُه يتفقُ مع حالِه.
وَنحنُ جارينا الرجلَ فِي كلامِه وَأوهامِه وَخرافاتِه؛ لنبينَ أنَّه كانَ يعتقدُ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، وإلَّا فإنَّ هذا باطلٌ جملةً وَتفصيلًا، كما بنياه مجملًا وسنبينه لاحقًا بشيءٍ مِنَ التفصيلِ.
وَالقولُ الخامسُ: قَالَ أبو يزيد: (حَجَجْتُ فرأيتُ البيتَ، وَلَمْ أَرَ رَبَّ البيتِ، ثُمَّ حججتُ ثانيةً فرأيتُ البيتَ ورأيتُ رَبَّ البيتِ، ثُمَّ حججتُ ثالثةً فرأيتُ رَبَّ البيتِ وَلَمْ أَرَ البيتَ)([5]).
وَفِي روايةٍ أخرى أنَّه قَالَ: (صِرْتُ مَرةً إلى مكةَ، فرأيتُ البيتَ مفردًا، فقلتُ: حجي غيرُ مقبولٍ؛ لأنِّي رأيتُ أحجارًا كثيرةً مِنْ هذا الجنسِ، وَذهبتُ مرةً أخرى فرأيتُ البيتَ وَربَّ البيتِ، قلتُ: لا حقيقةَ التوحيد بعد، وذهبتُ مرةً ثالثةً فرأيتٌ الكلَّ ربَّ البيتِ، وَلَا بيتَ، فنوديتُ في سرِّي: يا أبا يزيد، إذا لَمْ تَرَ نفسَك ورأيتَ العالمَ كلَّه لمَا كنتَ مشركًا، وإذَا لمْ تَرَ العالمَ كلَّه ورأيتَ نفسَك كنتَ مشركًا، عندئذٍ تُبْتَ، وَتُبْتَ أيضًا عنْ رؤيةِ وجودي)([6]).
وَأقولُ: هذا الرجلُ حكى لنَا ما رآه في الحرمِ المكي عندما حجَّ ثلاثَ مراتٍ - حسبَ مسارِه في تطبيقِ عباداتِ الطريقِ الصوفي -، فكانتْ أحوالُ هذا الطريقِ وَمقاماتُه هيَ التي تتحكمُ فيما رآه البسطامي في الحرمِ المكي.
فلمَّا وصلَ حالُ الفناءِ الصوفي، تلاشى وَانمحى عنْ نفسِه وَمحيطِه، وَفني فِي اللهِ حَسْبَ زعمِه؛ رأى في الحرمِ المكي اللهَ دونَ أنْ يرى البيتَ الذي رآه مِنْ قبلُ؛ لأنَّه في هذه الحالةِ انتقلَ مِنَ الفرقِ إلى الجمعِ، وَأصبحَ هوَ اللهَ، ورأى نفسَه متجليًا فِي الكونِ كلِّه حسبَ زعِمه، وهذا قولٌ صريحٌ بضلالةِ وحدةِ الوجودِ، التي هي غايةُ التصوفِ الكبرى.
وَالقولُ الأخيرُ – السادس -: مفادُه أنَّه قُرِئَ عنده يومًا قولُه تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]؛ فهاجَ ثُمَّ قَالَ: (مَنْ كَانَ عنده فلا يحتاجُ أَنْ يُحْشَرَ لأنه جليسُه أبدًا)([7]).
وقولُه هذا مخالفٌ للشرعِ، وتعالمٌ وتقدمٌ عليه كعادةِ الصوفيةِ في مخالفتِهم للشرعِ، لأنَّهم يتكلمون بلسانِ العبادةِ الصوفيةِ لَا الشرعيةِ، وعليه؛ فإنَّ الذي يهمنا هنا هوَ أنَّ قولَ البسطامي يتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ، وبها تَعَالُمٌ على تلكَ الآيةِ الكريمةِ، فهوَ قَدْ نفى أنْ يُحْشَرَ مع المتقين إلى الرحمنِ وفدًا؛ لأنَّه قدْ تلاشتْ نفسُه، وَفنى فِي اللهِ، فأصبحَ هوَ اللهَ، وَفِي مجالسةٍ أبديةٍ معه، وَمَنْ هذا حالُه لا يُحْشَر معَ المتقين، حسبَ زعمِه وَاعتقادِه بضلالةِ وحدةِ الوجودِ.
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.