الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحْبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...
تبيَّن لنا منْ خلالِ المسائل السابقةِ أنَّ المحبةَ أصلُ كلِّ عملٍ ديني، وأنَّ الخوفَ وَالرجاءَ وغيرَهما يستلزمُ المحبةَ ويرجعُ إليها، فإنَّ الراجي الطامعُ إنما يطمعُ فيما يحبُّه لا فيما يبغضُه، والخائفُ يفرُّ من الخوفِ لينالَ المحبوبَ([1]).
والعبادةُ ترتكزُ على هذه الأعمال القلبيةِ الثلاثةِ، فمنْ حقَّق هذه الأعمالَ؛ المحبةَ وَالخوفَ وَالرجاءَ، فقدْ حقَّقَ باقي الأعمال، فمنْ خافَ اللهَ واتقاه اتبعَ رضاه، ومنْ رجاه لم ييأسْ منْ رحمةِ اللهِ فأقبلَ على طاعةِ اللهِ، ومنْ أحبَّه لم يلتفتْ إلى ما سواه، لاكتفائِه بمحبوبِه عنْ غيرِه.
ولذَا قالَ بعضُ السلفِ: (مَن عَبَدَ اللهَ بالحبِّ وحدَه فهَو زنديقٌ، ومنْ عَبَدَهُ بالرجاءِ وحدَه فهو مرجئٌ، وَمنْ عَبَدَهُ بالخوفِ وحدَه فهو حروري، ومنْ عَبَدَهُ بالحبِّ والخوفِ والرجاءِ فهو مؤمنٌ موحِّدٌ)([2]).
وَقالَ شيخُ الإسلامِ: (وكَرِهَ من كَرِهَ من أهلِ المعرفةِ والعلم؛ مجالسةَ أقوامٍ يُكْثِرُون الكلامَ في المحبةِ بلا خشية)([3])؛ فمرادُهم أنَّ دعوى المحبةِ بلا تذللٍ وَلا خوفٍ وَلا رجاءٍ دعوى كاذبةٌ، وهذا لأنَّ فيها انبساطًا في الأهواء، ومنْ يدَّعي ذلكَ كثيرًا ما يقعُ في المعاصي وَلا يبالي، بلْ آلَ الأمرُ ببعضِ هؤلاء إلى الانسلاخِ عن الدينِ كلِّه، نسألُ اللهَ السلامةَ.
وَكذلكَ الرجاءُ وحدَه أورثَ العبدَ غرورًا وَأمنًا منْ مكرِ اللهِ، وَإذا استرسلَ فيه العبدُ تجرأَ على معاصي اللهِ، وكذلكَ الخوفُ وحدَه إذا استرسلَ فيه العبدُ ساءَ ظنُّه باللهِ، وقنطَ منِ رحمتِه.
قالَ شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -: (والمحبةُ ما لمْ تقترنْ بالخوفِ فإنها لا تنفعُ صاحبَها بلْ تضرُّه، لأنها توجبُ التواني وَالانبساطَ، وَربما آلَتْ بكثيرٍ منَ الجهالِ المغرورين إلى أنْ استغنوا بها عن الواجباتِ.
وَالمقصودُ أنَّ تجريدَ الحبِّ وَالذكرِ عنْ الخوفِ يوقعُ في هذه المعاطب، فإذا اقترنََ بالخوفِ جَمَعَهُ على الطريقِ وردَّه إليها كلما كَلَّها شيءٌ، كالخائفِ الذي معه سوطٌ يضربُ به مطيَّتَه لئلا تخرجَ عن الطريقِ، وَالرجاءُ حادٍ يحدُوها يطلبُ لها السيرَ، وَالحبُّ قائدُها وزمامُها الذي يشوِّقُها.
فإذا لمْ يكنْ للمطيةِ سوطٌ وَلا عصا يردُّها إذا حادتْ عن الطريقِ؛ خرجتَ عن الطريقِ وضلَّتْ عنها، فما حَفِظَتْ حدودَ اللهِ وَمحارمَه، ووصلَ الواصلون إليه بمثلِ خوفِه وَرجائِه ومحبتِه، فمتى خلا القلبُ منْ هذه الثلاث فسدَ فسادًا لا يُرجى صلاحُه أبدًا)([4]).
وكمَا أسلفْنا أنَّ الخشيةَ أبدًا متضمنةٌ للرجاءِ، ولولا ذلكَ لكانَ قُنوطًا، فالرجاءُ يستلزمُ الخوفَ ويقترنُ به، ولولا ذلكَ لكانَ أمنًا، فأهلُ الخوفِ للهِ وَالرجاءُ له هُمْ أهلُ العلمِ الذين مدحَهم اللهُ([5])؛ قالَ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وَقالَ تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].
هذا الاقترانُ بينَ المقامين في الآياتِ الكريماتِ يدلُّ على علاقةِ تكاملٍ وتلازمٍ وترابطٍ وثيقٍ بينهما، وأنَّ الأصلَ أنْ يعتدلا في قلبِ العبدِ، ولا يترجح أحدُهما على الآخرِ، مثلُه في ذلكَ مثل الطائرِ في حاجتِه إلى استواءِ جناحيه ليصحَّ ويتم طيرانُه، فإذا وقعَ النقصُ في أحدِهما حدثَ الخللُ، وإذا انتفيا بالكليةِ صارَ الطائرُ إلى حتفِه وَموتِه([6]).
وَكذلكَ لو نظرنا في الأحاديث النبويةِ؛ وجدْنَا أنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - يقرنُ بينَ الخوفِ والرجاءِ، مما يدلُّ على تناسبِهما وَأنهما مهمان في حياةِ المسلم، عنْ أنس - رضيَ اللهُ عنه - أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - دخلَ على شابٍّ وهو في الموتِ، فقالَ: ((كيف تَجِدُكَ؟ قال: واللهِ يا رسول الله، إني أرجو اللهَ، وإني أخافُ ذنوبِي، فقال رسولُ الله: لا يجتمعُ في قلبِ عبدٍ في هذا الموطنِ إلا أعطاه اللهُ ما يرجو، وأَمَّنَهُ مما يَخَاف))([7]).
وَقالَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((لو يعلمُ المؤمنُ ما عندَ اللهِ من العقوبةِ ما طمعَ بجنتِه، ولو يعلمُ الكافرُ ما عندَ اللهِ من الرحمةِ ما قنطَ من جنتِه))([8])، قالَ ابنُ حجر - رحمه اللهُ -: (قولُه "الرجاء مع الخوف" أي: استحباب ذلك، فلا يقطع النظرَ في الرجاءِ عنْ الخوفِ، ولا في الخوفِ عن الرجاءِ، لئلا يفضي في الأولِ إلى المكرِ، وفي الثاني إلى القنوطِ، وَكلٌّ منهما مذمومٌ)([9]).
قالَ شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -: (وَينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ خوفُه وَرجاؤُه واحدًا، فأيهما غلبَ هلكَ صاحبُه، وَنصَّ عليه الإمامُ أحمد، لأنَّ مَنْ غَلَبَ خوفُه وقعَ في نوعٍ مِنَ اليأسِ، وَمَنْ غَلَبَ رجاؤُه وقعَ في نوعٍ مِنَ الأمنِ مِنْ مكرِ اللهِ)([10])؛ نعمْ!! فالرجاءُ وحدُه يُورِدُ العبدَ غرورًا وَأمنًا من مكرِ اللهِ، وإذا استرسلَ فيه العبدُ وَخلا قلبُه منَ الخوفِ تجرَّأ على معاصي اللهِ.
فالحاصلُ أنَّ العبدَ ينبغي أنْ يسعى إلى اللهِ بينَ الخوفِ وَالرجاءِ اللذين يستلزمان المحبة، لكنْ هلْ يُغَلِّبُ الإنسانُ جانبَ الرجاءِ أو جانبَ الخوفِ؟
اختلفَ العلماءُ في ذلكَ على أقوالٍ أذكرُها بإيجاز([11]):
1. منهم منْ قالَ: يُغَلِّبُ جانبَ الرجاءِ مطلقًا؛ ليكونَ متفائلًا ومحسنًا للظنِّ بربِه، لأنَّ اللهَ عندَ ظنِّ عبدِه بِه.
2. ومنهم منْ قالَ: يُغَلِّبُ جانبَ الخوفِ مطلقًا، ليكونَ أدعى للعملِ وَيحملَه على اجتنابِ المعاصي.
3. ومنهم منْ قالَ: ينبغي أنْ يكونَ خوفُه ورجاؤُه سواءً، لأنه إذا غلَّبَ جانبَ الرجاءِ أَمِنَ منْ مكرِ اللهِ، وَإنْ غَلَّبَ جانبَ الخوفِ يَئِسَ مِنْ رحمةِ اللهِ، وَكلُّهما مذمومٌ، ويؤيدُ هذا القولَ الآياتُ وَالأحاديثُ الكثيرةُ التي جاءتْ بالجمعِ بينهما، وَيؤيدُ هذا القولَ أيضًا قصةُ الشابِّ الذي دخلَ عليه النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وهوَ يحتضرُ - كما سبق وبيَّنَّا -.
ومما يؤيدُ هذا القولَ أيضًا أنَّ الحافظَ ابنَ حجر حكى الاتفاقَ على استحبابِ التسويةِ بينهما في حالِ الصحةِ، فإنْ ثبتَ هذا الاتفاقُ فهوَ يدلُّ على أنَّ التسويةَ تكونُ في غيرِها مِنَ الحالاتِ أيضًا، استدلالًا باستصحابِ حكمِ الإجماعِ في محلِّ النزاعِ([12]).
وبهذا القولِ قالَ الإمامُ أحمد، قالَ - رحمهُ اللهُ -: (ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ خوفُه ورجاؤُه واحدًا، فأيهما غَلَبَ هَلَكَ صاحبُه)([13]).
كذلكَ هوَ قولُ شيخِ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ -، وقدْ سبقَ نقلُ كلامِه قريبًا، وأيضًا حينَ سُئِلَ - رحمه اللهُ - عنْ قولِ مطرفِ بن عبد الله: (لوْ وُزِنَ خوفُ المؤمنِ ورجاؤُه لاعتدلا)، قالِ شيخُ الإسلامِ معلقًا على قولِه: (وَهوَ كلامٌ صحيحٌ)([14]).
وَقالَ ابنُ رجب - رحمهُ اللهُ -: (فأمَّا الخوفُ والرجاءُ فأكثرُ السلفِ على أنهما يتساويان، لا يرجح أحدهما على الآخر، قالَه المطرف والحسن وأحمد)([15]).
4. ومنهم منْ قالَ: في حالةِ الصحةِ يكونُ خوفُه ورجاؤُه واحدًا، وفي حالِ المرضِ يُغَلِّبُ الرجاءَ، وَهذا اختيارُ النووي - رحمهُ اللهُ - إذْ قالَ: (اعلمْ أنَّ المختارَ في حالِ الصحةِ أنْ يكونَ خائفًا راجيًا، وَيكونُ خوفُه وَرجاؤُه سواءً، وفي حالِ المرضِ يُمحِّضُ الرجاءَ، وَقواعدُ الشرعِ منْ نصوصِ الكتابِ والسنةِ وغيرِ ذلك متظاهرةٌ على ذلكَ)([16]).
5. ومنهم منْ قالَ: إذا كانَ في طاعةٍ فليُغَلِّب الرجاءَ وَأنَّ اللهَ يقبلُ له، وإذا كانَ عندَ المعصيةِ فليُغَلِّبَ الخوفَ، لئلا يتقدمَ على المعصيةِ، ويُشْكِلُ على هذا القولِ قولُ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، وَقدْ تقدَّم أنَّ هؤلاء في طاعةٍ، يُصَلُّون وَيتصدقون ويصومون مع ذلكَ يخافون أنْ لا يُقبل منهم.
6. ومنهم منْ قالَ: في حالةِ الصحةِ يُغَلِّب جانبَ الخوفِ ليكونَ أدعى إلى الازديادِ مِنَ العملِ وَاجتنابِ المعاصي، وفي حالةِ المرضِ يُغَلِّب جانبَ الرجاءِ لأنَّه حينئذٍ لا يطيقُ العملَ، وَدواعي الشرِّ قد قَلَّت، ولمْ يبقْ في هذه الحالةِ للخوفِ كثيرُ معنى، فعليه أنْ يُحْسِنَ الظنَّ باللهِ؛ كمَا جاءَ في الحديثِ قالَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يحسنُ الظنَّ بربِّه))([17])، قالَ الفضيلُ بن عياض - رحمهُ اللهُ -: (الخوفُ أفضلُ مِنَ الرجاءِ ما دامَ العبدُ صحيحًا، فإذَا نزلَ بِه الموتُ فالرجاءُ أفضلُ)([18]).
7. ومنهم مَنْ قالَ: إذا أَمِنَ داءَ القنوطِ فالرجاءُ أولى، وإنْ أَمِنَ داءَ المكرِ فالخوفُ أولى؛ يقولُ الغزالي: (والخوفُ والرجاءُ دواءان يداوي بهما القلوبَ، ففضلُهما بحسبِ الداءِ الموجودِ، فإنْ كانَ الغالبَ على القلبِ داءُ الأمنِ منْ مكرِ اللهِ تعالى وَالاغترارِ بِه فالخوفُ أفضلُ، وإنْ كانَ الأغلبَ هو اليأسُ وَالقنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ فالرجاءُ أفضلُ، وَكذلكَ إنْ كانَ الغالبَ على العبدِ المعصيةُ فالخوفُ أفضلُ).
ثمَّ قَالَ: (وعلى الجملةِ؛ فما يُرادُ لغيرِه ينبغي أنْ يُستعملَ فيه لفظُ الأصلحِ لا لفظُ الأفضلِ، فنقول: أكثرُ الخلقِ الخوفُ لهم أصلحُ منَ الرجاءِ، وذلك لأجلِ غلبةِ المعاصي، فأمَّا التقيُّ الذي تركَ ظاهرَ الإثمِّ وباطنَه، وخفيَّه وجليَّه، فالأصلحُ أنْ يعتدلَ خوفُه ورجاؤُه)([19]).
وقالَ الشيخُ ابنُ عثيمين - رحمهُ اللهُ -: (وَالإنسانُ ينبغي أنْ يكونَ طبيبَ نفسِه، إذا رأى منْ نفسِه أنه أَمِنَ منْ مكرِ اللهِ، وَأنه مقيمٌ على معصيةِ اللهِ، ومُتَمَنٍّ على اللهِ الأماني؛ فيعدلَ عنْ هذِه الطريقِ وَليسلكَ طريقَ الخوفِ، وإذا رأى أنَّ فيه وسوسةً، وَأنَّه يخافُ بلا موجب، فيعدلَ عنْ هذا الطريقِ وليُغَلِّبَ جانبَ الرجاءِ، حتى يستوي خوفُه ورجاؤُه)([20]).
الهوامش:
([6]) شعب الإيمان، البيهقي، (2/328)، ومدارج السالكين، ابن القيم، (2/27-28)، وعبودية القلب، د.عبد الرحمن بن محمد البرادعي، (1/326).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.