الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحْبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...
إعظامُ المسألةِ فِي الدعاءِ:
مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى على الإنسانِ أَنْ فَتَحَ بابَ الدعاءِ دونَ وساطةٍ بينَه وَبينَ عبادِه؛ فقَالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فاللهُ تعالى لم يَقُلْ: قُلْ لهمْ يا محمد إنِّي قريبٌ، وإنِّما قالَ مباشرةً: أُجِيبُ دعوةَ الداعي إذا دعانِ.
وَمَنْ لَمْ يتعودْ سؤالَ اللهِ يغضبْ عليه، فالأصلُ بالمسلمِ أنْ يستمرَّ فِي دعائِه وَذلكَ لفقرِه المطلقِ إلى اللهِ تعالى؛ يقولُ اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، فقرٌ مُطْلَقٌ، فقرٌ فِي كلِّ شيءٍ، فاللفظُ لا يُسْتَثْنَى منه أحدٌ؛ الغنيُّ فقيرٌ، وَالفقيرُ فقيرٌ، وَالحاكمُ فقيرٌ، وَكُلُّ مخلوقٍ فقيرٌ وَمحتاجٌ إلى الخالقِ([1]).
فَمِنْ مظاهر الرجاءِ إعظامُ المسألةِ وَالإلحاحُ على اللهِ تعالى، لأنَّ اللهَ تعالى لا يستعظمُه شيءٌ، وَيؤيدُ ذلكَ حديثُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم:
- ((إذا دَعَا أحدُكم فلا يَقُلْ: اللهمَّ اغفرْ لي إنْ شِئْتَ، ولكنْ ليعزمَ المسألةَ وَليُعَظِّمَ الرغبةَ، فإنَّ اللهَ لا يتعاظمُه شيءٌ أعطاه))([2]).
- ((إذا دَعَا أحدُكم فليعزمَ المسألةَ، وَلَا يقولنَّ: اللهمَّ إنْ شئتَ فأعطِني، فإنَّه لا مستكره له))([3]).
وَقيلَ: (عزمُ المسألةِ الشدةُ فِي طلبِها، وَالجزمُ مِنْ غَيرِ ضعفٍ في الطلبِ، وَلَا تعليقَ على مشيئةٍ وَنحوها، وَقيلَ: هو حُسنُ الظنِّ باللهِ تعالى فِي الإجابةِ)([4]).
وَمعنى قولِه ((ليُعَظِّمَ الرغبةَ)): أي يبالغ في ذلكَ بتكرارِ الدعاءَ وَالإلحاحَ فيه، وَيحتملُ أنْ يُرادَ بِه الأمرُ بطلبِ الشيءِ العظيمِ الكثير، وَيؤيدها الروايةُ: ((فإنَّ اللهَ لا يتعاظمه شيءٌ))، ((فإنه لا مكره له)): المراد أنَّ الذي يحتاجُ إلى التعليقِ بالمشيئةِ مَا إذا كانَ المطلوبُ منه يأتِي إكراهه على الشيءِ، فيُخفف الأمرَ عليه وَيعلم أنَّه لا يطلب منه ذلك الشيءَ إلا برضاه، وَأنَّ اللهَ سبحانه منزهٌ عنْ ذلكَ فليسَ للتعليقِ فائدةٌ.
وَينبغي للداعي أنْ يجتهدَ فِي الدعاءِ وَيكونَ على رجاءِ الإجابةِ، وَلَا يقنطَ مِنَ الرحمةِ فإنَّه يدعو كريمًا، وَقَدْ قَالَ ابنُ عيينة: (لا يَمْنَعَنَّ أحدًا الدعاءَ ما يعلمُ في نفسِه مِنَ التقصيرِ، فإنَّ اللهَ قَدْ أجابَ دعاءَ شرِّ خلقِه وَهوَ إبليس قَالَ: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14])([5]).
(2) هجرانُ السوءِ وَالاجتهادُ فِي الطاعاتِ:
قَالَ تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].
هجرانُ المنكراتِ وَالقيامُ بالمأموراتِ هوَ مظهرٌ مِنْ مظاهر رجاءِ العبدِ للهِ، فَمَنْ رَجَا اللهَ تَحَرَّكَ قلبُه لمرضاتِه، وَقَامَ بواجباتِه، وَامْتَنَعَ عَنْ منهياتِه، فأقامَ صلاتَه وَأتقنَها؛ فكانتْ لَه وقايةً مِنَ الفحشاءِ وَالمنكرِ؛ قالَ تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
(فمَا الحياةُ إلا أعوامٌ، وَمَا الأعوامُ إلا شهورٌ، فالعمرُ قصيرٌ، وَالخطبُ جليلٌ، وَالعاقبةُ عظيمةٌ، لَا يجوزها إلا المُخِفُّونَ مِنَ الذنوبِ، المُكْثِرُون مِنَ الطاعاتِ، فالسعيدُ مَنْ اغتنمَ الفرصَ، وَإنَّ أبوابَ الخيرِ كثيرةٌ، وَسُبُلَ الطاعاتِ وفيرةٌ، وَإنَّ القيامَ بالطاعاتِ ليُعطي العبدَ همةً عاليةً.
وَالمؤمنُ لا يشبعُ مِنَ الخيرِ حتى يَحُطَّ رحالَه بالجنةِ، فكلما سَمِعَ بابًا مِنْ أبوابِ الخيرِ سارعَ إلى الدخولِ فيه، لا يَكِلُّ وَلَا يَملُّ مِنَ الطاعاتِ، لاسيما وَهوَ يسمعُ عَنْ ثوابِ الأعمالِ الصالحةِ، ففضلُ اللهِ كثيرٌ، يجودُ وَيسمحُ وَيعفو، الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ)([6]).
وَقَدْ بيَّنَ اللهُ تعالى صفاتَ المؤمنين وَالمؤمناتِ حقًّا، الذين يرجونَ تجارةً لَنْ تبور، بإقامتِهم الصلاةَ بتمامِها وَكمالِها، فهي عمودُ الدينِ وَرأسُ الأمرِ كلِّه، وَيُخْرِجُون حقَّ الفقراءِ مِنْ مالِهم الذي أعطاهم اللهُ إياه، وَجَعَلَ جزءًا منه حقًّا للفقيرِ وَليسَ منَّةً يمتنُّ بها عليه، وَيأتمرونَ بأمرِ اللهِ ورسولِه، وَينتهون عمَّا نهاهم.
فمنْ كانت هذه صفاتُهم؛ كانَ حقًّا على اللهِ تعالى أنْ يرحمِهم وَينقذَهم مِنْ عذابِه وَيُدخلَهم جنَّتَه، التِي بها ما لا عينٌ رَأَتْ وَلَا أُذنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَيْسِ ذلكَ على اللهِ بعزيزٍ؛ قالَ تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.