إن المتأمل في الكتابِ والسنةِ وكلامِ العلماء عمومًا، يجدُ الاعتناءَ الكبيرَ بأمرِ الرجاء، وذلك بالأمر أن يفرد اللهَ به، وأن لا يشرك فيه معه غيرَه، وقد وضَّحَ شيخُ الإسلام - رحمه الله - أن الواجب على العبد أن لا يقطع نفسه من رحمةِ ربه، بل يرجوه ويخشى ذنوبه، فإذا كثرت ذنوبُه تعلَّق برجاءِ المغفرةِ من الله له مع التوبة منها ومع بذلِه للأسباب.
(فإن الخيرَ لا موجب له إلا مشيئةُ اللهِ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والمعوِّق له من العبدِ هو ذنوبُه، وما كان خارجًا عن قدرةِ العبدِ فهو من اللهِ، وإن كانت أفعالُ العبادِ بقدرِ اللهِ تعالى لكان اللهُ جعلَ فِعْلَ المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة والسعادة، فشهادةُ التوحيدِ تفتحُ بابِ الخيرِ، والاستغفارُ من الذنوبِ يغلقُ بابَ الشرِّ.
ولهذا ينبغي للعبدِ أن لا يعلِّق رجاءه إلا باللهِ، ولا يخاف من اللهِ أن يظلمَه، فإن اللهَ لا يظلمُ الناسَ شيئًا ولكن الناسَ أنفسهم يظلمون، بل يخافُ أن يجزيه بذنوبِه، وهذا معنى ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يرجونَ عبدٌ إلا ربَّه ولا يخافنَّ إلا ذنبَه[1]، وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على مريضٍ فقال: ((كيف تجدُك؟ فقال: أرجو اللهَ وأخافُ ذنوبِي، فقال: ما اجتمعا في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطن إلا أعطاه اللهُ ما يرجو وأمَّنَه مما يخاف))[2].
فالرجاءُ ينبغي أن يتعلقَ باللهِ ولا يتعلقَ بمخلوقٍ، ولا بقوةِ العبدِ ولا عملِه، فإن تعليقَ الرجاءِ بغيرِ اللهِ إشراكٌ، وإن كان اللهُ قد جعلَ لها أسبابًا فالسبب لا يستقلُّ بنفسِه، بل لابد له من معاونٍ، ولابد أن يمنع المعارض المعوِّق له، وهو لا يحصلُ ويبقى إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى.
ولهذا قيل: الالتفاتُ إلى الأسبابِ شركٌ في التوحيد، ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسبابًا نقصٌ في العقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكليةِ قدحٌ في الشرعِ؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8]، فأمرَ بأن تكونَ الرغبة إليه وحده، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
فالقلبُ لا يتوكلُ إلا على من يرجوه، فمن رجا قوتَه أو عملَه أو علمَه أو حالَه، أو صديقَه أو قرابتَه أو شيخَه، أو مُلْكَه أو مالَه، غير ناظرٍ إلى اللهِ؛ كان فيه نوعُ توكلٍ على ذلك السبب، وما رجا أحدٌ مخلوقًا أو توكَّلَ عليه إلا خابَ ظنُّه فيه، فإنه مُشرك: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
وكذلك المشركُ يخافُ المخلوقين ويرجوهم فيحصل له رعبٌ؛ كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]، والخالصُ من الشرك يحصلُ له الأمن)[3].
وفي مقدمة هذه الأسباب الجالبة للرجاء:
العلم والمعرفة بالله وعظمته:
فإن الإنسان مجبولٌ على إرادة الخير ويرجو تحصيله، كما يكره المكروه ويرجو دفعه، فإذا علم أنه لا يستطيع نفعه ولا دفع ضره إلا الله، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا معقِّبَ لأمره، وأنه لا مُعَارِضَ لحكمه، بل ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن، وجب عليه أن لا يُعَلِّقَ رجاءَه إلا باللهِ[4].
كذلك؛ إذا عَلِمَ العبدُ المسلم (أن المخلوقَ لا يقصد منفعتك بالقصدِ الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضررٌ إذا لم يراعِ العدلَ، فإذا دعوتَه فقد دعوتَ من ضرُّه أقربُ من نفعِه.
والربُّ سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنَّك هذا على جفوةِ الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أَحْسِن إليهم للهِ لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخَف اللهَ في الناسِ ولا تخف الناسَ في اللهِ، وارْجُ اللهَ في الناسِ ولا تَرْجُ الناسَ في اللهِ.
وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 17-20]، وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9])[5].
2- مطالعة الكرم والحلم والعفو[6]من الله سبحانه وتعالى، وهو من أساليب القرآن في ترغيب الناس في رجاء الله.
ولقد اقتضت رحمةُ الله تعالى الواسعة أن تُحَرِّمَ اليأس والقنوط، ولذلك كان نداؤه جل وعلا لعباده: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وذلك لأن اليأس يُحكمُ منافذ الأمل أمام صاحبه، ويُغْلِقُ معابر النور، ويُطفئ شمعة الرجاء، ويُسدل أمام ناظريه ستارًا أسود لا يتجاوزه، ويسد الطريق أمامه فلا يعود إلى الصراط المستقيم، ويستمر في طريق الغي والضلال مما لا يُرضي ربَّ العباد.
والإسلام دينُ الأمل والرجاء في كرم الله ورحمته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، والرسول صلى الله عليه وسلم يُحببنا في الرجاء والأمل ويحثنا عليه، وينهى عن اليأس والقنوط فيقول: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلَّا وهو يحسنُ الظنَّ باللهِ عز وجل))[7].
([1]) رواه عبد الرزاق في مصنفه، (11/469)، وابن أبي شيبة في مصنفه، (7/101)، والبيهقي في شعب الإيمان، (12/195).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.