إن المتأمل في الكتابِ والسنةِ وكلامِ العلماء عمومًا، يجدُ الاعتناءَ الكبيرَ بأمرِ الرجاء، وذلك بالأمر أن يفرد اللهَ به، وأن لا يشرك فيه معه غيرَه، وقد وضَّحَ شيخُ الإسلام - رحمه الله - أن الواجب على العبد أن لا يقطع نفسه من رحمةِ ربه، بل يرجوه ويخشى ذنوبه، فإذا كثرت ذنوبُه تعلَّق برجاءِ المغفرةِ من الله له مع التوبة منها ومع بذلِه للأسباب.
فالرجاءُ ينبغي أن يتعلقَ باللهِ ولا يتعلقَ بمخلوقٍ، ولا بقوةِ العبدِ ولا عملِه، فإن تعليقَ الرجاءِ بغيرِ اللهِ إشراكٌ، وإن كان اللهُ قد جعلَ لها أسبابًا فالسبب لا يستقلُّ بنفسِه، بل لابد له من معاونٍ، ولابد أن يمنع المعارض المعوِّق له، وهو لا يحصلُ ويبقى إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى.
ولهذا قيل: الالتفاتُ إلى الأسبابِ شركٌ في التوحيد، ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسبابًا نقصٌ في العقلِ، والإعراضُ عن الأسبابِ بالكليةِ قدحٌ في الشرعِ؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7-8]، فأمرَ بأن تكونَ الرغبة إليه وحده، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
ومن هذه الأسباب الجالبة للرجاء:
مطالعة الكرم والحلم والعفو من الله سبحانه وتعالى: [1]
وهو من أساليب القرآن في ترغيب الناس في رجاء الله، ولقد اقتضت رحمةُ الله تعالى الواسعة أن تُحَرِّمَ اليأس والقنوط، ولذلك كان نداؤه جل وعلا لعباده: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وذلك لأن اليأس يُحكمُ منافذ الأمل أمام صاحبه، ويُغْلِقُ معابر النور، ويُطفئ شمعة الرجاء، ويُسدل أمام ناظريه ستارًا أسود لا يتجاوزه، ويسد الطريق أمامه فلا يعود إلى الصراط المستقيم، ويستمر في طريق الغي والضلال مما لا يُرضي ربَّ العباد.
والإسلام دينُ الأمل والرجاء في كرم الله ورحمته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، والرسول صلى الله عليه وسلم يُحببنا في الرجاء والأمل ويحثنا عليه، وينهى عن اليأس والقنوط فيقول: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلَّا وهو يحسنُ الظنَّ باللهِ عز وجل))[2].
ونجمل أسباب الرجاء في الأمور التالية:
أولًا ـ ذكر سوابق فضل الله تعالى في إيجاد العبد وإمداده من جوده وكرمه:
قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وقال: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67].
ثانيًا ـ سعة رحمة الله تعالى وعظيم فضله:
الرحمة لغةً: الخير والنعمة، وفي التنزيل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} [يونس: 21] إرادة إيصال الخير[3]، والرحمة صفةٌ من صفات الله تعالى "الرحمن الرحيم"، وهذه الصفةُ تُثْبِتُ الصلةَ الدائمة بين الخالق ومخلوقاته، إنها الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمدَ والثناءَ، إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة[4].
(1) من الآيات الكريمة في الرحمة:
قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، فالأصل في صفات الله تعالى الرحمة، أما الغضب فهو نتيجةٌ لأعمالِ الإنسان وليست صفةً لازمة، فصفتُه اللازمة الدائمة هي الرحمة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
وعن ابن عباس لما نزلت الآيةُ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال: (تطاولَ إبليسُ - عليه اللعنة - وقال: أنا شيءٌ من الأشياءِ يكونُ لي نصيبٌ من رحمته!! وتطاولت اليهودُ والنصارى.
فلما نزل قولُه تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156]؛ أي سأجعلُ رحمتي للذين يتقون الشركَ ويؤتون الزكاةَ، {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، يعني يُصَدِّقُون بآيات اللهِ، فيئسَ إبليسُ من رحمتِه، وقالت اليهودُ والنصارى: نحن نتقي الشركَ ونؤتي الزكاةَ ونؤمنُ بآياته، ثم نزل قولُه تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157]، فيئسَ اليهودُ والنصارى وبقيت الرحمةُ للمؤمنين خاصةً)[5].
فأي فضلٍ من الله لك أيها المؤمن؟! فاشكر اللهَ على ما هداك وتفضَّل عليك بنعمة الإيمان، وارجع إليه مقبلًا عليه بتوبةٍ نصوحة.
(2) من الأحاديث الواردة في الرحمة:
قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: ((لما خَلَقَ اللهُ الخلقَ كَتَبَ في كتابِه - هو يكتبُ على نفسِه، وهو وُضِعَ عنده على العرشِ -: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ للهِ مائة رحمة، فمنها رحمةٌ بها يتراحمُ الخلقُ بينهم، وتسعةٌ وتسعون ليومِ القيامةِ))[7].
(3) من مظاهر رحمة الله تعالى:
- ومن رحمة الله تعالى أنه يجازي بالفضل زيادةً على الأجر:
يقول اللهُ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، فالقرضُ اسمٌ لكل ما يعطيه الإنسانُ ليُجازَى عليه، فسمَّى اللهُ تعالى عملَ المؤمنين قرضًا، على رجاء ما وعدهم به من الثواب، لأنهم يعملون لطلب الثواب، ومعنى الآية: (من ذا الذي يُقَدِّمُ لنفسه إلى اللهِ ما يرجو ثوابَه عنده، وهذا تلطفٌ من اللهِ تعالى في استدعاء عباده إلى أعمالِ البرِّ والطاعةِ)[8].
ومما يدل على عظيمِ فضل الله على عباده ما جاء في الحديثِ الشريف؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يقولُ اللهُ عز وجل: من جاءَ بالحسنةِ فله عَشْرُ أمثالِها وأزيد، ومن جاءَ بالسيئةِ فجزاؤه سيئة مثلها أو أَغْفِر، ومن تقرَّبَ مني شبرًا تقربتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ مني ذراعًا تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً، ومن لقيني بِقُرَابِ الأرضِ خطيئةً لا يشركُ بي شيئًا لقيتُه بمثلِها مغفرةً))[9.
- أنه تعالى لا يأخذنا بذنوبنا:
ما من شخصٍ إلا يذنبُ وذلك لضعف النفس الإنسانية، ولكن من رحمةِ الله بالإنسان أنه لا يعاجله بالعقوبة، فمن صفات الله تعالى أنه يُمْهِلُ ولا يُهْمِل، انظر إلى قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58].
وقال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 43-44]، فلو أخذَ اللهُ الإنسانَ بذنبِه لما تركَ على الأرضِ أحدًا.
-ومن رحمته تعالى تيسير التوبة واستمرارها إلى نهاية العمر:
يقولُ اللهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ عز وجل يبسطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها))[10].
ونرى آدمَ وزوجَه يستغفران ربهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
- ومن رحمته ستر الإنسان بعد المعصية:
فالله تعالى يسترُ الإنسان فلا يظهر أثرٌ لمعصيته، فتبقى المعصية بين العبد وربِّه ينتظره إلى أن يتوب منها، فسبحان ربي ما أوسع رحمته؟![11]، ففي الحديث الشريف: ((يُدْنَى المؤمنُ يومَ القيامةِ منْ ربِّه عز وجل حتى يضعَ عليه كَنَفَه، فيُقَرِّرَه بذنوبِه فيقول: هل تعرفْ؟ فيقول: أي ربِّ أعرف، قال: فإنِّي قد سترتُها عليك في الدنيا وإني أغفرُها لك اليوم، فيُعطى صحيفة حسناتِه، وأما الكافرُ والمنافقون فيُنادى بهم على رءوسِ الخلائقِ، هؤلاء الذين كذبوا على اللهِ))[12].
([3]) المعجم الموسيط، مجمع اللغة العربية، (1/335)، انظر: التعريفات، الجرجاني، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1416، ص(110).
([5]) تفسير الطبري، (13/151)، تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء و المرسلين، السمرقندي، بيروت، لبنان، دار الكتاب العربي، ص(29).
([7]) رواه مسلم، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها تسبق غضبه، حديث (2753)، (4/2108).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.