وَمِنْ خصائِصِه صلى اللهُ عليه وسلم كونُه رحمةً للعالمَين

وَمِنْ خصائِصِه صلى اللهُ عليه وسلم كونُه رحمةً للعالمَين



الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحْبِه وَمَنْ وَالَاه وَبَعد... قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. وَقَالَ اللهُ تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
قالَ الحافظُ ابنُ كثير في تفسيرِ هذِه الآيةِ: (يُخْبِرُ تعالى أنَّ اللهَ جعلَ محمدًا - صلى اللهُ عليه وسلم - رحمةً للعالَمِين، أي: أرسلَه رحمةً لهم كلِّهم، فَمَنْ قَبِلَ هذه الرحمةَ وَشَكَرَ هذه النعمةَ؛ سَعِدَ في الدنيا وَالآخرِة، وَمَنْ رَدَّهَا وَجَحَدَها خَسِرَ في الدنيا وَالآخرةِ)([1]).
وروى الإمامُ أحمدُ في مسندِه بسندٍ صحيحٍ لغيرِه، عنْ أبي موسى الأشعري - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: (أمانان كانا على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - رُفِعَ أحدُهما وَبقيَ الآخرُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
وروى الإمامُ ابنُ جريرٍ الطبري في تفسيرِه بسندٍ حَسَنٍ عنْ ابنِ عباسٍ - رضيَ اللهُ عنهما - قال في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]؛ قال - رضيَ اللهُ عنه -: (كانَ فيهم أمانان: نبيُّ اللهِ وَالاستغفارُ، فذهبَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَبقيَ الاستغفارُ)([2]).
وروى أبو داود في سُننِه بسندٍ حَسَنٍ عنْ عبدِ اللهِ بن عمرو بن العاص - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((انكسفتْ الشمسُ على عَهْدِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -؛ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ... رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذَّبَهم وَأنَا فيهم؟! أَلَمْ تَعِدْنِي ألَّا تُعَذِّبهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون؟! ...، قالَ: فَفَرغَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - مِنْ صلاتِه([3]) وَقَدْ أَمْحَصت الشمسُ))([4]).
وَأخرجَ الإمامُ مسلم في صحيحِه عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((قيلَ: يا رسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ على المشركين، قالَ - صلى اللهُ عليه وسلم -: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإنِّمَا بُعِثْتُ رحمةً))([5]).
وَرَوى الإمامُ مسلم في صحيحِه عن أبي موسى الأشعري - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((كانَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - يُسمِّي لنفسِه أسماءً، فقالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَد، وَالمُقَفَّى، وَالحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوبَةِ، وَنَبِيُّ الرحمةِ))([6]).
وَأخرجَ البيهقيُّ في دلائلَ النبوةِ وَابنُ سعدٍ في طبقاتِه عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((يَا أَيهَا النَّاس، إنِّمَا أنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ))([7]).
وَأخرجَ الإمامُ مسلم في صحيحِه عَنْ أبي بردة، عنْ أبيه - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((النُّجُومُ أَمَنَةٌ للسَّمَاءِ، فإذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أصحابي مَا يوعدون([8])، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُون))([9]).
قالَ الإمامُ النووي: (قالَ العلماءُ: "الأَمَنَةُ" بفتحِ الهمزةِ وَالميمِ وَالأمنُ وَالأمانُ بمعنى، وَمَعْنَى الحديثِ: أنَّ النجومَ مَا دامتْ باقيةً فالسماءُ باقيةٌ، فإذا انْكَدَرَتْ النُّجُومُ وَتَنَاثَرَت فِي القيامةِ؛ هنَّتْ السماءُ فَانْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَذَهَبَتْ)([10]).
وَقالَ الإمامُ البغوي فِي شرحِ السُّنةِ: (هوَ مَبْعوثٌ - صلى اللهُ عليه وسلم- بالرحمةِ أيضًا، مِنْ حيثُ أنَّ اللهَ وَضَعَ فِي شريعتِه عَنْ أُمَّتِهِ مَا كانَ في شرائعَ الأممِ السالفةِ عليهم مِنَ الآصَارِ وَالأغلالِ)([11]).
وَرَوى الشيخان في صحيحيهما عَنْ عائشة - رضيَ اللهُ عنها - قالتْ للنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي([12])، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ([13])، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ([14])، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))([15]).
       قَالَ الحافظُ في الفتح: (وَفِي هذا الحديثِ بيانُ شفقةِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - على قومِه، وَمزيدِ صبرِه وحلمِه، وهو موافقٌ لقولِه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وَقولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]([16]).
 
الهوامش:

([1]) انظر: تفسير ابن كثير، (5/385).

([2]) أورده الطبري في تفسيره، (6/233).

([3]) أي صلاة الكسوف.

([4]) رواه أبو داود، كتاب الجمعة، باب القراءة في صلاة الكسوف، (1194).

([5]) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، (2599).

([6]) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى اللهُ عليه وسلم، (2355).

([7]) رواه البيهقي في دلائل النبوة، (1/157)، وصححه الألباني في الصحيحة، (490)، وعزاه لابن سعد في طبقاته، وقال: هذا إسناده صحيح مرسل، ثم أورد طرقه، وختم كلامه بقوله: (فإذا انضمَّ إلى ذلك روايةُ مالك بن سعير، قوي الحديث وارتقى إلى درجة الحسن أو الصحة، والله أعلم).

([8]) قال الإمام النووي في شرح مسلم، (16/68): (أي منَ الفتنِ والحروبِ وارتدادِ منْ ارتدَ منَ الأعرابِ واختلاف القلوبِ نحو ذلك مما أنذرَ به صريحًا، وقدْ وقعَ كلُّ ذلكَ).

([9]) قال الإمامُ النووي في شرح مسلم، (16/68): (معناه منْ ظهورِ البدعِ وَالحوادثِ في الدينِ، والفتنِ فيه، وطلوعِ قرنِ الشيطانِ وَظهورِ الرومِ وغيرِهم عليهم، وانتهاكِ المدينةِ وِمكةَ وَغير ذلك، وَهذه كلُّها منْ معجزاتِه صلى اللهُ عليه وسلم).

والحديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة، (2531)، ورواه أحمد في مسنده، (19566).

([10]) انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، (16/68).

([11]) انظر: شرح السنة، البغوي، (13/214).

([12]) قال الحافظ في الفتح، (6/462): (أي على الجهة المواجهة لي).

([13]) قال الحافظ في الفتح، (6/462): (قرنُ الثعالبِ هوَ ميقاتُ أهلِ نجد، ويُقالُ له: قرن المنازلِ أيضًا).

([14]) هما جبلا المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبلٌ مشرف على وجهه على جبل قيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة، انظر: النهاية، ابن الأثير، (2/31).

([15]) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدُكم آمين، (3231)، ومسلم، كتاب بدء الخلق، باب ما لقي النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، (1795).

([16]) فتح الباري، ابن حجر، (6/463).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
وَمِنْ خصائِصِه صلى اللهُ عليه وسلم كونُه رحمةً للعالمَين.doc doc
وَمِنْ خصائِصِه صلى اللهُ عليه وسلم كونُه رحمةً للعالمَين.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى